حتى لا يضيع القليل الباقي

TT

يوما بعد يوم تتأكد استحالة قيام اي «تقارب» بين ارييل شارون وياسر عرفات. الجسور كلها نُسفت، ولحقها جرف بيوت الأبرياء، ومصداقية الطرفين وصلت الى ادنى درجة. عندما اصبح رئيسا للوزراء، قال شارون انه سيعمل من اجل السلام (!) واعتقد الاسرائيليون، قبل العرب، ان السنوات السبعين علمته دروسا عميقة، فاذا به بعد شهر يعود الى شخصيته الحقيقية الرافضة للسلام مع الفلسطينيين والعرب. اما ياسر عرفات، فإن سنوات عمره التي قضاها زعيما للثورة طغت عليه، فعجز ان يكون رئيسا لدولة كادت ان تنشأ. وجاءت عمليات نيويورك وواشنطن لتحسم التردد الاميركي في التدخل لدعم عملية السلام، الى موقف يؤيد شارون، أو لا يحاججه، وكل ما صدر عن الرئيس جورج دبليو بوش كان في تشرين الاول (اكتوبر) الماضي، عندما قال ان اقامة دولة فلسطينية «كانت دائما جزءا من التفكير الاميركي في الشرق الاوسط». لم يقل بوش ان ادارته تتبنى هذا الموقف وتعمل لتحقيقه.

في هذه الاثناء تسارع هياج شارون، وتضاعفت اخطاء عرفات، وبقي شعب واحد يدفع ثمن تيارات عدة تتقاذفه. الآن يبرز صوت فلسطيني منطقي، من المؤكد انه سيتعرض لاتهامات من جانب قادة الخلايا والكتائب والتنظيمات والسلطة...وبالتأكيد اسرائيل. فقد قال سري نسيبة، المسؤول عن ملف القدس، انه من مصلحة الفلسطينيين ان تكون الدولة الفلسطينية في المستقبل منزوعة السلاح، واضاف في حديث لمجلة «دير شبيغل» الالمانية: «في الصراع الفلسطيني ـ الاسرائيلي، لا يمكن للسلاح ان يجد الحل (...) والعمليات الانتحارية ضد اسرائيل غبر مقبولة اخلاقيا، وغير منتجة سياسيا». إذا بنى الفلسطينيون على هذه التوجهات، يمكن ان ينقذوا القليل الذي بقي. فاميركا، ولاسباب صارت معروفة، مهتمة بالافغان وغير مهتمة بالفلسطينيين، واوروبا تبيعهم كلمات وجولات، ولا شيء آخر. اما الدول العربية فإنها بدورها تنتظر التغييرات التي ستطرأ ولا بد. فاذا كان العالم كله رافضا ان يهتم بمصير الشعب الفلسطيني، وهذا واقع ولا احد يستطيع تفسيره اطلاقا، فما العمل؟ ان كل ما صدر، حتى الآن، كان عن وزير خارجية اقوى دولة، كولن باول، عندما اعتبر جرف الجيش الاسرائيلي لمدرج مطار غزة «عملا دفاعيا»! وان جرف ذلك الجيش لبيوت فقراء المخيمات والاحياء الفلسطينية «عمل استفزازي»! ... وصمت.

واذا كانت تصريحات صائب عريقات «النارية» اثبتت عدم جدواها، فإن هناك ايضا الآن حاجة ماسة كي توقف اسرائيل جرف «البيوت» الفلسطينية، وان يُرغم شارون على وقف استفزازاته. ان ما يشكل دولة فلسطين في المستقبل، يكاد ينتهي، فالمشردون الفلسطينيون يقعون ضحايا خرائط شارون، الذي يتفاخر بأن سياسة جرف البيوت تـأتي ضمن «متطلباته الامنية»، مسقطا بذلك ادعاءاته بأن تلك البيوت مهجورة إلا من مسلحين. لقد عادت الامم المتحدة تحمل الخيم للمشردين من جديد، لكن هذه الامم المتحدة، وامينها العام كوفي انان، على توافق في تجاهل كل القرارات الدولية المتعلقة بالشرق الاوسط، وهي تغض النظر عن خطة شارون لاقامة مناطق حيادية شاسعة على حساب الفلسطينيين، وتكاد القضية الفلسطينية ان تنتهي بخيم الامم المتحدة كما بدأت بتلك الخيم! لقد قرر العالم ألا يسمع. هذا العالم الذي تخلى عن تمسكه بالعدالة لصالح الانتقام. وها هو شارون مستمر في عملياته الانتقامية من شعب بأكمله يتمسك بأطراف بلاد كانت له. ان قضية شارون والشعب الفلسطيني، ولا اقول القيادة الفلسطينية، تجسيد لقصة الذئب والحمل. فالذئب هنا لن يرضى بوقف اطلاق النار، ولا بوقف العمليات، ولا بالخضوع، ولا حتى بالاستسلام، انه يريد ان يلتهم ذلك الشعب، اخطأ أو اصاب! لن نطلب من الاميركيين، او الاوروبيين، او الافارقة، او الروس، او الصينيين، او من سكان الكواكب الاخرى ان يتدخلوا ليردعوا شارون، بل نطلب منهم فقط ان يقولوا للشعب الفلسطيني المقهور ماذا عليه ان يفعل، بعدما لم يعد امامه سوى الخيم والبحر وشارون و... الانفجار الجارف! #