القمة اجتازت «قطوع الإمام» ... فماذا بعد؟!

TT

شر البلية ما يضحك.

لم تعد الهموم القومية تشكل محور القمم العربية التي كانت قد توقفت ردحا طويلا من الزمن، بل اصبحت الخلافات الوطنية الثنائية تعترض هذه القمم وتؤثر على مواقفها واعمالها وتهدد قراراتها، من منطلق ان مبدأ الاجماع هو الذي يشكل قاعدة اتخاذ هذه القرارات.

تداخل الوطني مع القومي، وربما تعارض معه او تقدم عليه الى درجة ان الهموم باتت تراوح عند مبدأ عقد القمم لا عند القرارات والمواقف والسياسات التي يمكن ان تنتج من هذه القمم.

وهكذا فان قمة بيروت التي ستعقد في 27 و28 آذار (مارس المقبل)، كانت المحطة الاخيرة في مسلسل الخلافات الجانبية التي تهدد «مؤسسة القمة» كأعلى مناسبة دورية على المستوى القومي، حيث كانت هموم الامين العام للجامعة العربية عمرو موسى وعدد من الدول العربية بينها لبنان وليبيا ومصر وسورية والمملكة العربية السعودية، منصبة في الاسابيع الاخيرة على معالجة الخلاف الناشئ حول انعقاد القمة في بيروت، بعدما دعت ليبيا الى عقدها في القاهرة بمقر الجامعة العربية بدلا من بيروت.

والخلاف على عقد القمة في العاصمة اللبنانية، نشأ على خلفية «كلام شيعي» قيل في لبنان ووصل الى حد اطلاق تهديدات موجهة الى العقيد معمر القذافي، انطلاقا من مسألة اختفاء الامام موسى الصدر قبل 23 عاما، الذي تقول ليبيا انها لا علاقة لها به، بينما يصر زعماء الطائفة الشيعية في لبنان على القول ان القذافي هو المسؤول عن اختفائه وان من الضروري جلاء هذا الموضوع.

طبعا لا حاجة الى التوسع في الحديث عن تفاصيل هذا الخلاف الذي استمر دائما، لكن من الضروري القول ان مؤسسة القمة العربية حظيت بهم اضافي يذكّر بالهموم الاخرى التي تتربص بها وتهدد مبدأ الاجماع فيها.

وفي هذا السياق قد يكون من الملائم ان نعيد قراءة الفصول التي احاطت بانعقاد القمة الاخيرة في عمان، حيث هددت «الحالة العراقية ـ الكويتية» على ما يتذكر الجميع اعمال القمة وكادت ان تطيح بها، وحين كانت تطل من كواليس الخلافات العربية ايضا وايضا، قصة الخلاف على الصحراء الغربية، التي تشكل بدورها حالة من حالات النزاع بين الدول العربية.

و«الكلام الشيعي» حول مشاركة ليبيا، وقد وصل الى حد توجيه التهديدات الى شخص الرئيس الليبي، لم يثر خلافا كاد ان ينسف قرار عقد القمة في لبنان فحسب، بل انعكس خلافا على المستوى الداخلي اللبناني، حيث بدا عنصرا اضافيا من عناصر النزاع بين الرئيسين نبيه بري ورفيق الحريري المختلفين اساسا على موضوع التعيينات الادارية كما يعرف اللبنانيون.

ففي حين نشرت بيانات في بيروت تهدد القذافي حرص الحريري على ان يرد من بروكسل، حيث كان يشرف على توقيع اتفاق الشراكة اللبنانية مع اوروبا، بأن «العقيد القذافي مُرّحب به في لبنان لحضور القمة ونحن نتطلع الى رؤيته بيننا».

في غضون ذلك كان وزير الوحدة الافريقية الليبي عبد الله التريكي (لاحظ كلمة الافريقية) يطالب بعقد القمة في القاهرة بدلا من بيروت «لأن الظروف غير مناسبة في لبنان والكثيرون من رؤساء الدول العربية لن يحضروا القمة لدواع امنية».

ومن خلفية هذا الكلام، تحرك عمرو موسى سريعا لانقاذ اول قمة تعقد في خلال توليه الامانة العامة للجامعة العربية، حيث قام بجولة عربية حملته الى لبنان وليبيا وعدد آخر من الدول العربية، محذرا من ان «الكلام الشيعي» يمكن ان يؤدي الى تأثير سلبي كبير ليس على القمة ومكان انعقادها بل على مصلحة لبنان والتضامن العربي.

يوم الخميس الماضي تمت معالجة ذيول «الحالة الليبية ـ الشيعية» وانعكاساتها السلبية، التي كانت تتهدد القمة العربية العتيدة، فبعدما اصدر رفيق الحريري بيانا جازما يقول ان القرار السياسي في لبنان هو في يد السلطة التنفيذية التي ترحب بالقذافي، وهذا يعني تجاوز كل ما قيل شيعيا في هذا المجال، سافر موسى الى ليبيا التي قبلت الموقف اللبناني واسقطت تحفظها عن عقد الاجتماع في بيروت.

ثمة مفارقة لافتة ومثيرة لا يجوز ان نتجاوزها في هذا السياق، وهي تتعلق تحديدا بالمفهوم الارتجالي والخاطئ، الذي اعطاه كالعادة عدد من اللبنانيين الى الموقف السوري من مسألة القمة، حيث قيل اولا ان سورية لا تريد القمة ان تنعقد في بيروت وسط الظروف العربية الراهنة، حيث يمكن ان تتخذ قرارات تؤيد موقف الرئيس ياسر عرفات حيال الانتفاضة، وحيث يفضل الرئيس بشار الاسد عدم المجيء الى بيروت لأن لمجيئه معاني سياسية تتعلق بمؤشرات سيادية لبنانية.

ولكن سرعان ما تبين ان هذه التحليلات هي من نسج مخيلات مغرقة في الوهم او في الفرضية، ذلك ان الرئيس السوري استقبل وزير الخارجية اللبناني محمود حمود يوم الاربعاء الماضي، وتسلم منه الدعوة الرسمية الموجهة من الرئيس اميل لحود لحضور القمة، واعلنت دمشق رسميا «ان الاسد شكر لحود على الدعوة وانه سيلبيها وسيشارك في اعمالها بكل ايجابية وبما يحقق الغايات المرجوة منها».

اكثر من ذلك تبين ان الرئيس السوري قام بوساطة في قضية التحفظ الليبي عن عقد القمة في لبنان، حيث استقبل نهاية الاسبوع الماضي الموفد الليبي احمد قذاف الدم وناقش معه الاعتراض الليبي، ثم اجرى اتصالا بالعقيد القذافي وتمنى عليه اسقاط تحفظه فوافق. وبعد اتصالات على محور دمشق ـ بيروت ـ طرابلس طلبت ليبيا ان يزورها عمرو موسى حيث حلت عقدة التحفظ عن عقد القمة في بيروت.

ولا ندري لماذا تركت قصة «الكلام الشيعي» الى حد اثارة مشكلة حول انعقاد القمة في بيروت واضطرار الرئيس السوري من جهة وامين عام الجامعة العربية من جهة ثانية ليبذلا كل هذه الجهود لانقاذ مؤسسة القمة العربية، التي بالكاد استعادت آلية انعقادها الدوري سنويا.

ففي الاساس كان في وسع الدولة اللبنانية ان تقول كلاما حازما بموازاة الكلام الشيعي، لا يدحض احقية المطالبة بالكشف عن مصير الامام موسى الصدر، ولكن لا يسمح او يفسح في المجال لجعل لبنان متلبسا الاسقاطات المتأتية من هذا الكلام.

وفي الاساس هناك اقنية دبلوماسية بين لبنان وليبيا يمكن ان تعالج هذه المسألة من خلالها وان تعطى ما تستحق من الاهمية، من دون الحاجة الى التراشق بالتهديدات.

وثمة معلومات تتحدث عن تحفظ ليبي على عقد القمة في لبنان ظهر في القمة الاخيرة في عمان، بعدما تنازلت دولة الامارات عن دورها في استضافة القمة للبنان، وربما كانت هذه التحفظات ناشئة على خلفية التوجس الليبي من مشكلة قد تثار انطلاقا من مسألة الامام الصدر التي تعود الى 23 عاما الى الوراء كما قلنا والتي طالما اثارت جدلا واطلقت كلاما شيعيا لبنانيا مشابها.

وفي هذا السياق يقول مندوب ليبيا الدائم في الجامعة العربية عبد المنعم الهوني، ان وساطات عدة بذلت في عمان يومها لمعالجة التحفظ الليبي المبدئي، وان اقتراحات عدة قد طرحت، وبينها تشكيل لجنة محايدة لتقصي الحقائق وايجاد خاتمة مقبولة لموضوع اختفاء الامام، مثل الحديث عن لجنة لبنانية ـ سورية ـ ليبية، او لجنة لبنانية ـ ايرانية ـ ليبية، او حتى لجنة من الجامعة العربية، ولكن لم يحصل شيء عملي في هذا الاطار وتركت الامور معلقة منذ اكثر من خمسة اشهر.

الآن عبرت القمة العربية قطوع الخلاف على مسألة الامام الصدر، وبات مؤكدا انها ستعقد في موعدها المقرر في بيروت، وان كان ليس واضحا بعد اذا كان الرئيس الليبي سيحضرها شخصيا او انه سيوفد من يمثل ليبيا نيابة عنه.

لكن الامر يذكر تحديدا بـ «الحالة العراقية ـ الكويتية» التي واجهت القمم الاخيرة وخصوصا قمة عمان، بما يدفع تكرارا الى طرح سؤال جوهري:

لماذا تطغى الخلافات العربية الجانبية (رغم وجاهتها الوطنية) على الهموم القومية؟ وهل يمكن ان تحظى مسألة التحديات الحاسمة التي تواجهها الدول العربية بعد 11 ايلول (سبتمر)، وخصوصا في ظل استمرار مذبحة شارون المفتوحة ضد الشعب الفلسطيني، بما حظيت به قصة الخلاف حول «الكلام الشيعي»؟

لا حاجة الى الاجوبة، بل الى البكاء؟!