الغناء واللغة

TT

كنت أستمع قبل أيام إلى أغان من المطربة الإيرانية البارعة «مرضية»، أم كلثوم إيران. كانت مختارات من أغانيها الدينية الصوفية «مناجاة»، استمعت إلى الكاسيت مرتين أو ثلاث. وجدت نفسي لدى خروجي من البيت أردد كلماتها، رغم أنني لم أعرف اللغة الفارسية مطلقاً.

تأملت في الظاهرة فوجدت أن مرضية كانت تنطق الكلمات بفصاحة ودقة لا تملك غير أن تتبعها في ما تقول وتغني، وعندما تنقط الجمل وتسكت. نقلت انطباعي هذا إلى المطربة العراقية رؤيا غالي، قالت هذا ما تفعله أم كلثوم أيضاً، رحمها الله، حتى لتتحول بعض عباراتها الغنائية إلى جمل نثرية تكاد تقرأها ككلمات.

جلست واستعرضت في ذاكرتي كل المطربين والمطربات الذين أعجبت بهم، وأعجب بهم الجمهور عموماً. سيد درويش، محمد عبد الوهاب، أم كلثوم.. في مصر. محمد القبانجي وسليمة مراد في العراق. انتقلت بذاكرتي إلى الغرب، رشارد توبر من ألمانيا، ماريا كالس وبافروتي من إيطاليا، وتشارد تاكر من أمريكا، كاثرين فرير من بريطانيا. كلهم اشتهروا باحترامهم لحرفة الكلمة. ربما سيمكننا تمييز المطرب الصالح من الطالح في نطقه الصحيح وتعامله مع اللغة. كانت هذه هي النصيحة التي دأب على تقديمها مؤلف اوبرات غلبرت وسليفان للمغنين: «شكلوا الكلمات! شكلوا الكلمات». ربما ساهم ذلك في إعطاء إيطاليا والمغنين الطليان ذلك المجد الشامخ في عالم الاوبرا، انه النطق القوي الواضح للغة الكلام الايطالية.

نستطيع أن نلمس الكثير من تفاهة وضعف نجوم السنوات الأخيرة، لا سيما في عالم موسيقى البوب من عجزهم أو عدم اهتمامهم بتوصيل ما يغنون به من كلمات، على تفاهتها، إلى مستمعيهم. وهي علة أصبحت هي الأخرى جزءا من العولمة، فهي ظاهرة نصادفها في كل مكان وفي سائر الميادين، إنها وحدانية الإنسان المعاصر وعدم قدرته على الاتصال بأخيه الإنسان أو عدم رغبته بذلك. نلمسها حتى في رقص الدسكو، كل واحد يرقص لوحده. ليس لديه ما يقوله أو يعبر عنه في خطواته، انه فقط ينط كالديك المذبوح، لا يتحرك نحو أي مكان، تكفيه البقعة التي هو عليها. ولا يريد أن يكلم أحداً أو يسمع لكلام أحد. عبثاً يحاول امثالي تخفيض صوت الموسيقى على مكبرات الصوت ليستطيعوا تبادل الكلام. يقولون لنا الشباب يريدونها بأعلى صوت، تبادل الكلام أو الاصغاء للكلمات، كلمات المطرب، أو كلمات الصديق، هو آخر ما يخطر في بالهم أو يسعون إليه. كل واحد يعيش في عالمه الخاص، لا اتصال، لا شيء هناك تفهمه، لا شيء عندك لتقوله، وإذا قلته فلن يسمعه الآخر، وإذا سمعه فلن يفهمه، وإذا فهمه سيفترض أنه كذب، فما الشدة وما الداعي للفصاحة؟

انغلاق الأغاني الرائجة الحديثة، بل قل كل الفنون الحديثة هو جزء من انغلاق روح الإنسان. وهذا شيء غريب يسير جنباً إلى جنب مع روح الانعتاق والأممية والعالمية الإنسانية.

ولعل للأمر علاقة بانحسار أثر الدين في ميدان الفنون، فتلاوة القرآن الكريم عند المسلمين، والأناشيد الكنسية عند الغربيين، كانت المدرسة الأولى في تعليم نجوم الغناء على احترام اللغة ومخارج الحروف وفصاحة النطق. وهو بالضبط ما تعلمه اساتذة الطرب عندنا بالأمس. لهذا كان أغلب المطربين مسلمين وأغلب العازفين يهوداً ونصارى. ويظهر أن عالمنا المقلوب، قلب المعادلة الآن!