عرب كثيرون يهمسون: أهرب أسامة.. أهرب

TT

في طريق عودتي من كابل توقفت في باكستان والخليج ولندن وبروكسل، حيث تجاذبت أطراف الحديث مع العديد من الصحافيين ورجال الاعمال من عرب ومسلمين وزعماء جالياتهم في أوروبا. ولم يكن أي من هؤلاء ـ رغم أنهم من المتعلمين والاذكياء ـ يعتقد بأن أسامة بن لادن مذنب. فهذا صحافي عربي من البحرين يؤكد انه ليس في وسع العرب أبدا تنفيذ عملية بتعقيد هجمات 11 سبتمبر (أيلول). ونظرت لي مسلمة اوروبية التقيتها في بروكسل نظرة وكأني شخص غبي عندما قلت ان أشرطة بن لادن التي تباهى فيها بالهجوم على مركز التجارة العالمي هي أشرطة أصلية بالتأكيد وأنها ليست من صنع وزارة الدفاع (البنتاغون). أما الطالب العربي الذي تلقى تعليمه في أميركا فأصر على ان الاستخبارات الاميركية (سي.آي.ايه) والموساد لا بد انهما كانتا تعرفان مسبقا بطريقة او بأخرى بعملية 11 سبتمبر، ثم تساءل: لماذا لم تتحركا لمنع وقوعها؟ وهناك رجل أعمال سعودي يرى انه كانت هناك خطة مبيتة من جانب وسائل الاعلام الاميركية للتهجم على السعودية من دون أي سبب، في حين أسرَ لي احد الباكستانيين بتصديق جميع الطلاب الذين يدرسون مع ابنه بالاشاعة الكاذبة التي ترددت حيال تسلم اربعة آلاف من اليهود الذين يعملون في مركز التجارة تحذيرات بعدم التوجه الى مكاتبهم هناك في 11 سبتمبر.

لقد كانت هذه الآراء بصراحة حاضرة في أنحاء العالمين العربي والاسلامي منذ 11 سبتمبر، ولكني كنت آمل بأن يدفع سقوط طالبان والعثور على أشرطة بن لادن التي اعترف بمسؤوليته فيها الى تبديدها. ولكن هذا لم يحصل، بل انها تحولت الى جدار حديدي من سوء الفهم ينتصب بين أميركا والعالمين العربي والاسلامي، كما لا يزال الاعتقاد بها قويا الآن كما كان في 11 سبتمبر، حتى لو أبدى هؤلاء تحفظا تجاه نشرها والتصريح بها علنا.

وكل ذلك يفضي بنا الى نقطة بسيطة مفادها أنه بينما انتصرت أميركا في حربها في أفغانستان فإنها لم تنجح في كسب قلوب وعقول أبناء العالمين العربي والاسلامي. وباتت الهوة الثقافية والسياسية والنفسية القائمة بيننا أعمق مما كانت عليه أبدا، ولو رفضت تصديق ذلك فاسأل أي سفير أميركي من المغرب حتى اسلام آباد، فستجد أنهم يحدثونك جميعا عن «المؤامرة الاميركية» على العالم الاسلامي.

لا بد من القول ان هناك استثناءات في كل بلد زرته، فعندما التقيت بأصدقاء في المنامة في الاسبوع الماضي وجدت العديدين منهم أصحاب نظرة نقدية عميقة وعلى استعداد لمواجهة الحقيقة وتقبلها، ولكن تظل هذه الحالات استثناء من الوضع العام. فما الذي أقام هذا الستار الحديدي من عدم الثقة وسوء الفهم؟

هناك عدة أسباب وراء ذلك، منها فشلنا كأميركيين في توضيح مواقفنا خلال العقدين الماضيين باللغة العربية واحباط كل الاشاعات الكاذبة والمغرضة المتعلقة بالسياسة الخارجية الاميركية بحقائق دامغة. ولا بد من الالتفات الى ان ادارة بوش تعكف حاليا على اعداد ملف مفصل، بالعربية، عن كل الادلة المتوفرة ضد بن لادن. ورغم تأخر هذه الخطوة فإنها افضل من عدم الاقدام عليها، رغم أن اجلاء الحقائق لوحده لن يكون بالأمر الكافي.

فهناك مقاومة ثقافية عنيدة تجاه التصديق بصدور أي أمر ايجابي عن أميركا، اذ تعمل بعض وسائل الاعلام الرسمية في عدد من الدول العربية على التركيز على هذا الامر لصرف انتقادات عموم الناس بعيدا عن الانظمة، في حين ان جانبا من ذلك أيضا يصدر على هيئة ثأر من أميركا لدعمها اسرائيل خاصة في هذا الوقت الذي بات فيه النزاع الاسرائيلي ـ الفلسطيني أشبه ما يكون بماكينة تفريم لحم بشري تبث صوره عبر التلفزيونات العربية كل ليلة. ويوفر عدم الاعتراف بالنظرة الاميركية لما جرى في 11 سبتمبر او الانتقاص من شأن انتصارها في أفغانستان طريقة للعرب والمسلمين للانتقام من التأييد الاميركي لاسرائيل، الذي يشعرون بعجزهم الشديد على التأثير فيه. ويبدو أن هناك في الوقت نفسه قدرا من اهتزاز الثقة بالنفس داخل أجزاء من العالمين العربي والاسلامي، فما الذي تستنتجه عندما يقول لك شخص بأنه لا يمكن أن يتمتع عرب أو مسلمون بذكاء كاف يمكنهم من تنفيذ عملية بحجم هجوم 11 سبتمبر، لهذا فإنها من صنيع الموساد او «سي.آي.ايه»؟ إنه لأمر محزن أن تصل ثقة العرب بأنفسهم في هذه الايام الى هذا الحد المتهاوي بسبب أداء الأنظمة السياسية والاقتصادية العربية الضعيفة التي عملت على تقوية موجات الغضب العارمة التي حاول بن لادن امتطاءها.

وأخيرا، فإن علينا الاعتراف بأن بن لادن يدق على وتر حساس داخل كل عربي ومسلم، حتى عند من يدين جرائمه التي ارتكبها. فلا يزال كل هؤلاء يثنون على صنيعه بدعوى انه كان الرجل الوحيد الذي لم ترهبه القوة الاميركية الساحقة.

الواقع هناك الكثيرون داخل العالمين العربي والاسلامي الذين يهمسون اليوم بهدوء من اعماق قلوبهم: «اهرب أسامة... اهرب». هذا ما يجري هناك هذه الايام، وأتمنى لو ادري كيف يمكننا تغييره!

* خدمة «نيويورك تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»