حول التقدم الإنساني

TT

مفهوم التقدم مشكلة فكرية قديمة، ومع ذلك فاغلب الناس يعتقدون ان عالم الانسان يتقدم بشكل او آخر، والكثير منا يعتقد ان بعض المشكلات التي نعاني منها سوف تحل في المستقبل سواء كانت هذه المشاكل صحية او اجتماعية. ولدى غالبية الناس اعتقاد بأن العلم يسير قدما، وأنه كل يوم يكتشف اشياء جديدة في مختلف مجالات الحياة. والحق ان التقدم بلغ درجة من الخطورة جعلت الناس يخافون على الحياة ذاتها، خاصة بعد تفجير القوى النووية، دعك من الاضطرابات التي تحدث في البيئة وتهدد الحياة على الكوكب. اما في المجال الاجتماعي فيتوقف امر التقدم على الموقع الذي يتحدث الناس عنه. ففي الوقت الذي احرز التقدم نتائج واضحة في مجتمع منطقة من المناطق لم يزل التقدم ـ بأي معنى من المعاني ـ بعيدا عن اماكن عديدة قد تشكل الغالبية العظمى من السكان. ولعبت الحروب في التاريخ البشري دورا اساسيا في التطورات العلمية والتكنولوجية. وكان بعض المفكرين ـ الى عهد قريب ـ يعتقد أن المعرفة العلمية والابتكارات التكنولوجية التي تحققت في الخمسين سنة الاخيرة اكبر من كل الانجازات العلمية والتكنولوجية التي تمت في التاريخ البشري كله. ولكن الى جانب ذلك لم تتقدم البشرية من الناحية الاخلاقية او السلوكية بحيث صار البعض يخشى نتائج هذا التقدم على مستقبل العالم. فهذه القدرات الكبرى يتعامل معها أناس لم ينضجوا بعد على المستوى الاخلاقي ويستعملون هذه القوة دون روادع اخلاقية، بل وبحماقة وقلة تبصر تؤدي الى هلاك شامل. ومع ذلك فمن الممكن القول ايضا بأن بعض المجتمعات البشرية قد وصلت الى درجة متقدمة من الناحية الاجتماعية، بمعنى انه امكن تطوير النظم الاجتماعية بما يحقق الحرية للافراد والمشاركة في اختيار الحكومات وصنع القرارات عن طريق ممثلين مختارين من الناس وموضع مراقبة ومراجعة من جهات متعددة. وربما كان صحيحا ان النظم الديمقراطية المعروفة والفكر الليبرالي الحديث يعدان بحل الكثير من المشاكل القائمة سواء في الدول المتقدمة او دول العالم الثالث. ولكن غالبية الناس يعرفون ان التقدم على المستوى الاجتماعي كان محفوفا بمخاطر عديدة وأنه احتاج الى صراعات وحروب ليتحقق شيء منه في هذا الموقع او ذاك. وقد كانت مسؤولية الانسان الاجتماعي المشارك ايجابيا في الحياة الاجتماعية هي مقاومة الاوضاع السلبية وتطوير مجتمعه نحو حياة اكثر تطورا وانسانية. وهو ما حدث طوال القرن الماضي على الاقل. وما احرزته المجتمعات المتقدمة من مكاسب كان نتيجة متابعة ونضال الكثير من المثقفين في العالم. وفي العالم الاوربي وطوال الخمسين سنة الماضية كان من الممكن ان تجد «مثقفا» ينتقد حكومته ويقف ضدها في المرحلة الاستعمارية، ولكن كان على المثقف المحلي الدور الاكبر في ازاحة القوى الاستعمارية عن الهيمنة على وطنه. اما اليوم ـ ربما بسبب العولمة او ثورة الاتصالات ـ فان الانتقادات تنهال من كل الجهات ومن كل البلاد. فنحن نرى كيف ان موضوع اسرى الحرب الافغانية اصبح مثارا على نطاق واسع في الغالبية العظمى من دول العالم بما فيها الولايات المتحدة نفسها. والواقع ان المثقف المعاصر، سواء كان عربيا او هنديا او ايرانيا او باكستانيا، او من اي جنسية اخرى من العالم الثالث، الذي يعيش في بلد اوربي او في احدى الولايات الامريكية او في بلده، صار ينظر الى خريطة العالم بأوسع كثيرا من خريطة بلده المحلية. ومن المتغيرات الاساسية ان عددا كبيرا من المثقفين قد هجر بلده في الآونة الاخيرة بسبب الاحداث المتتالية التي وقعت في مجتمعات العالم الثالث والشرق الاوسط بصفة خاصة نتيجة عدم قدرة هذه المجتمعات على استيعاب معارضي السلطة فيها ومختلفي الرأي معها. ولهذا صارت هناك مشكلة ازدواجية الانتماء بالنسبة للاعداد الكبيرة المقيمة في الخارج، بمعنى ان هذا المثقف المهاجر صار عليه ان يفكر في مصير البلد الذي هاجر اليه ومصير البلد الذي جاء منه. وحتى كبار المثقفين الذين حققوا نجاحا على المستوى الغربي واندمجوا بشكل كلي في الحياة الثقافية في الغرب المتقدم لم يزل احساسهم بالمسؤولية عن الاوطان التي نشأوا فيها حادا وحيويا، ونحن نرى اهتمام كاتب امريكي ناجح هو ادوارد سعيد بالقضية الفلسطينية بأكثر كثيرا من اهتمام مثقف امريكي آخر له قيمة كبرى ايضا ومساهمة فكرية في حل المشكلة الفلسطينية مثل نعوم تشومسكي بسبب الانتماء العرقي ـ الفلسطيني لدى ادوارد سعيد، ونحن نرى ايضا ان اكثر كتب سلمان رشدي مفجر الازمة الشهيرة اهمية هي التي تناولت الحياة في الهند، ومن يراجع كتبه يجد ان الهند لم تغب عن كتاباته على الاطلاق. ويبدو أن شخصية الانسان لا تتحقق الا من خلال هوية اجتماعية وثقافية، وأن انتماءات الانسان لا تتلون حسب الظروف اذ يظل انتماؤه العرقي والثقافي مؤثرا في شخصيته وهو يحافظ عليه ـ ربما لا شعوريا ـ حتى بعد ان تستقر حياته في المجتمع الجديد والثقافة الجديدة. على ان وحدة العالم التي تتحقق يوما بعد يوم قللت كثيرا من الاحساس بالازدواجية واحيانا بالتناقض. وفي الحرب الافغانية الاخيرة وضع هذا الموقف النفسي المتأرجح بين العاطفتين موضع التجريب، فوجدنا العرب الذين حاربوا الى جانب الافغان سواء ضد الروس او ضد الولايات المتحدة، ووجدنا ايضا بعض الذين يحملون الجنسيات الاوربية او الامريكية الذين خاضوا الحرب الى جانب الافغانيين بسبب انتمائهم الديني او بسبب الثقافة الجديدة التي اوشكت ان توحد بين الاهتمامات والافكار في العالم. حقا ان الولاء الديني او العرقي ما زال اقوى من اي ولاء آخر. ولكن ما حدث مؤخرا في الحروب يكشف عن ولادة منحى عالمي لدى الشباب، ربما كان ضئيلا اليوم لكن من الواضح أنه يؤشر على اتساع في المستقبل، وربما لو كانت القضية التي يدافع عنها هؤلاء الشباب اكثر عقلانية وانسانية لكان المنحى العالمي قد ازداد اتساعا، وقد رأينا في مظاهرات معادي العولمة جنسيات متعددة جاءت من الدول الاوربية بصفة خاصة. على أن رد الفعل على المعاملة الامريكية مع اسرى الحرب الافغانية يكشف عن هذا الميل العالمي الجديد، لأن نقد الولايات المتحدة جاء من كبار المثقفين في العالم الغربي والمؤسسات المدنية المختلفة التي راحت تمارس ضغوطا قوية على الحكومة الامريكية بهدف التعامل مع هؤلاء الاسرى حسب القوانين الدولية الموضوعة. ولم تأت هذه الانتقادات من اعداء للولايات المتحدة او حتى من اصحاب النزعات اليسارية بل من اليمين واليسار والوسط على السواء. على ان الاحساس بالانتماء الى عالم الجنس البشري ككل بدأ يأخذ مجراه. ومن الطبيعي ان يلتفت الناس الى الولايات المتحدة باعتبارها الدولة القائدة وبالتالي تظفر باكثر النقد من بين الدول جميعا. وربما كانت احداث الحادي عشر من سبتمبر (ايلول) نوعا من النقد غير العقلاني اتخذ هذه الصورة الاجرامية المخيفة. فالواقع ان الصراع الايديولوجي ضد النظام الاميركي قد اختفى، ومرتكبو حوادث الحادي عشر من سبتمبر لم يكونوا في صراع عقائدي مع الليبرالية الامريكية بل لعلهم في حربهم مع الاتحاد السوفياتي السابق كان لهم انتماء ما او موافقة ضمنية على الايديولوجية الليبرالية الامريكية. وربما كان هذا هو السبب المباشر في اللياذ بالدين لايجاد شكل من اشكال المخالفة مع ان هذا الدين كان موجودا اثناء التحالف مع الولايات المتحدة ضد الاتحاد السوفياتي والشيوعية بشكل عام وهو الامر الذي ما زلنا نراه في بعض المواقع التي تحدث فيها قلاقل في بعض الجمهوريات السوفياتية السابقة او حتى في الاتحاد اليوغسلافي الذي تقطعت اواصره مؤخرا.

تساءل الكثير من الامريكان بعد حوادث الحادي عشر من سبتمبر عن سبب الكراهية للشعب الامريكي وانتشارها بين عدة جماعات، والحقيقة ان هذا مفهوم متعجل لأن النقد او الهجوم الموجه لامريكا هو نوع من الرغبة او الميل الانساني العام لتصحيح مسار الحياة السياسية في المجتمع القائد، وربما كان كامنا في نفوس الناس ان تحسين الاوضاع داخل الولايات المتحدة، خاصة في مجال الحريات والتقدم الاجتماعي، يعني كسبا للعالم ككل بسبب الدور العالمي غير الخافي للولايات المتحدة. ونحن نرى ـ على اية حال ـ ان الولايات المتحدة تتدخل بالفعل في الكثير من الازمات الدولية. رأينا ذلك في التدخل لتحرير الكويت من الاحتلال العراقي ورأيناه في الدفاع عن المسلمين في كوسوفو وها نحن نراه في افغانستان، بل ورأيناه من قبل في الصومال وغيرها من المواقع الساخنة.

ومع مرور الوقت وتطور الثقافة الليبرالية الجديدة وتأثيرها على الفكر الاجتماعي، وبالطبع انتهاء الحرب الباردة والتي اقامت حاجزا نفسيا امام الافكار الانسانية الحديثة، رأينا تغيرا في المواقف الاميركية. فقد آزرت الولايات المتحدة الديكتاتور بينوشيه الذي اغتال الديمقراطية في شيلي وقتل علنا الرئيس الشيلي سلفادور اليندي فضلا عن عشرات الالوف من ضحايا الديكتاتور، لكن عندما اثير موضوع تقديم بينوشيه الى المحاكمة لم تدافع عنه امريكا، وكذلك الامر بالنسبة لديكتاتور الفلبين ماركوس. وهكذا في الكثير من القضايا تغير الموقف بشكل ايجابي نتيجة لمؤثرات من بينها تأثيرات ثقافية. حقا ان الموقف الامريكي ما زال ملتبسا بالنسبة للقضية الفلسطينية، بل انه منحاز بشكل ظالم الى الجانب الاسرائيلي. الا ان تصحيح المواقف ليس مستحيلا حتى مع هيمنة او تأثيرات اللوبي اليهودي في المجتمع الامريكي.

ونحن نرى ان الكثير من النواحي السلبية تتعرض للكشف وها هي ذي فضيحة جديدة تقترب من مقعد رئاسة الجمهورية حول افلاس شركة «اونرون» العملاقة وما وراءه من اجراءات او تصرفات مشتبه فيها.

ولأن تقدم اي مجتمع من المجتمعات مرتبط بحرية النقد والوسائل الديمقراطية المختلفة، فمن الطبيعي ان ينهال النقد على الولايات المتحدة من كل اتجاه بمن في ذلك مواطنو العالم الثالث المنشغلون بسياسات الولايات المتحدة اكثر من انشغالهم بنقد نظم الحكم في مجتمعاتهم. ولعل هذا له صلة بالتغيرات التي تحدث في العالم الآن وللدور المتسع الذي تلعبه الولايات المتحدة في التدخل في شؤون العالم. ومهما تكن خلفيات السياسة الامريكية من حيث المصالح والرغبة في الهيمنة على العالم فان هناك احساسا عالميا بأن تطور الولايات المتحدة وتقدمها الفكري والاخلاقي نوع من الجهاد العظيم الذي يساعد على تقدم العالم.