مليون ريال بلا جواب نهائي

TT

كان غابرييل غارسيا ماركيز يفرض على نفسه برنامج عمل يبدأ في التاسعة صباحاً وينتهي في الثالثة بعد الظهر. وعندما فرغ من كتابة آخر سطر في روايته «مائة عام من العزلة»، كانت الساعة لا تزال الواحدة، فضرب كفا بكف وقال لنفسه، «كيف امضي الآن الساعتين التاليتين». ليست هذه مشكلة بيل كلنتون. انه يمضي الوقت محاضراً ومسافراً. وفي ساعة واحدة حصل على مليون ريال عن محاضرة في «منتدى جدة»، من دون حاجة الى جورج قرداحي والسؤال النهائي. او بالأحرى الجواب النهائي. ومليون فوق مليون سوف يكتشف الرئيس السابق ان التقاعد اكثر فائدة وجدوى من سنوات الخدمة القصيرة في البيت الابيض. فكل ما تراكم عليه من ديون في حاكمية اركنساو وسنوات باولا جونز ورفيقاتها، يسدد الآن بلمحة بصر: ملايين عن مذكراته. وملايين عن محاضراته، وملايين عن خبرته وتجربته مع الجواب النهائي في الرياسة والسياسة والمسايسة: من رواق حاكمية اركنساو الى الرواق الشمالي في البيت الابيض.

خرج بيل كلنتون من الرئاسة قبل عام، بلا اثر يذكر. فهو لم يترك خلفه «مبدأ» سياسياً، مثل مبدأ مونرو او ايزنهاور. ولم يحسم حرباً مثل جورج بوش الأب او سلماً مثل جيمي كارتر في كامب ديفيد. وقد امضى وقته في الدفاع عن نفسه، ولكن ببراعة هائلة وطاقة خارقة، ولم تكن من حوله «ماكينة» آل كينيدي تلّمع صورته وتنسج حولها الأساطير. لكن هذا الفقير اليتيم الناشئ في بيت أم مدمنة الكحول، استطاع ان يذهب طالباً الى اوكسفورد وان يفوز شاباً بحاكمية الولاية التي ولد فيها، وان يبلغ البيت الابيض في مواجهة صاحب اطول سيرة سياسية في اميركا.

مشكلة بيل كلنتون انه فعل كل شيء لنفسه بنجاح وأخفق في ان يصنع شيئاً للتاريخ. والآن يعيش من العمل الذي لمع فيه اكثر من اي رئيس آخر: فن الخطابة والمحادثة وأسر محادثه. لقد اتقن فن السحر الكلامي الذي هو سيد الموقف في سياسات اميركا. وهو يحول الآن هذا الاتقان الى صناعة قائمة بذاتها، كما فعلت مارغريت ثاتشر وكما فعل ميخائيل غورباتشوف وكما فعل خصوصاً جون ميجور، الذي نشأ فقيراً معدماً في بريكستون ثم بلغ 10 داوننغ ستريت الذي خرج منه متوسط الحال ثم اخذ يحصد الملايين من المذكرات والمحاضرات.

غير ان بيل كلنتون لن يكون ريتشارد نيكسون آخر. اي لن يكون الرئيس الكاتب والباحث والمتعمق الذي يترك خلفه تحليلاً مرجعياً لظروف مرحلته وتاريخها. ولا يزال هنري كيسنجر يكتب الى اليوم، تارة مذكرات وتارة عظات للمستقبل. ولعلّه أمهر «بقائي» في السياسة الاميركية التي تركها قبل ربع قرن، ومع ذلك نجح في البقاء «في الصورة» وكأنه لا يزال شريكاً فاعلاً فيها. وقبل ايام مات خلفه سايروس فانس من دون اي اثر. فما ان خرج من وزارة الخارجية حتى خرج من ذاكرة السياسة الخارجية الاميركية، باستثناء مهمة قصيرة وفاشلة في البلقان، قبل سنوات. كذلك حدث لعدد كبير من الوزراء السابقين: دين راسك وجورج شولتز والكسندر هيغ، والى حد ما، جيمس بيكر الثالث، المنكفئ الى ردهات آل بوش.