الأصل: تكثير الصداقات .. وكسر العداوات

TT

هذا المقال: مدٌّ لموضوع الأسبوع المنصرم (الكراهية متبادلة.. لماذا؟).. مد له في المجال.. واستدارة به إلى (الأفق التأصيلي) الذي ينبغي أن ينداح ويتأصل، لكي تصح رؤية المسلمين إلى العالم، أو إلى غير المسلمين وتنضج نضوجاً يقيم العلاقة على منهج صحيح، وعقل راشد، ويجرد هذه العلاقة من غليان الانفعالات الطاغية.. فعلاقة المسلمين بغيرهم أوسع من أن تحصر في حدث أو أزمة، وأدوم وأبقى من أن تُقرّر ـ بطريقة نهائية ـ في لحظة ما.

إن أناساً منا استغلوا أحداث الحادي عشر من سبتمبر الماضي في بث أفكار، تؤصل العداوة مع العالم كله تقريبا (ولا نقصد هنا أولئك الذين يباهون بأنهم إرهابيون فحسب).. وكأن هذه العداوة الجماعية مقصد من مقاصد الإسلام.. وكأن عداوات العالم للإسلام والمسلمين أمنية عزيزة مشبعة بالفرحة الغامرة، والابتهاج العظيم!! وأصل هذا المقال (الأصل: تكثير الصداقات.. وكسر العداوات) ـ والذي سيبدأ في أول الفقرة التالية ـ، نشر في مجلة (المعرفة) السعودية.. وقد كتب قبل احداث سبتمبر 2001.. والمقصود بالإشارة إلى هذا التاريخ هو: أولا: ان تقرير الحقائق ينبغي أن يحصل على كل حال: في الرخاء والشدة، في الظروف المعتادة، وفي أثناء الأزمات.. ثانيا: ان للإسلام منهجاً مبيناً وعملياً في تكثير الصداقات، وكسر العداوات وتقليلها.. ثالثا: ان المسلمين أحوج ما يكونون إلى هذا المنهج السوي الرضي الندي الهادي العادل العاقل الحصيف الإيجابي، المفعم بالتسامح والواقعية وفتح فرص الاحتمالات الحسنة في العلاقة ببني الإنسان.

ربما يتمنى امرؤ يحلم بعالم من الأناسيّ أشبه ما يكون بالملائكة: ان يخلو وجه الأرض من العداوات.. وهذه أمنية حلوة، لكنها ليست وفق مقتضى الحال، أي الواقع الموّار بالبغضاء والضغن والعداوة.

فمن السنن العامة: أن المجتمعات البشرية مذ نشأت لا تخلو من العداوات.. ومن هذه العداوات ما هو حق. ومنها ما هو باطل، وذلك بحسب المقاييس والموازين التي بها تقاس وتوزن.

ولعل في الدلالة اللغوية ما يعين على استبانة مفهوم العداوات بدارا.

والمبتدأ: كلمة (عدو)، وهي أصل واحد صحيح يرجع إليه الفروع كلها ـ كما يقول ابن فارس ـ. وهو يدل على تجاوز في الشيء، وتقدم لما ينبغي أن يقتصر عليه.

وفي لسان العرب: عدا عدواً: ظلم وجار. وأصله تجاوز الحد. وذئب عدوان، إذا كان يعدو على الناس والشياه.. والعداوة: اسم من العدو.

ومن المعاني الثابتة المجلوة ـ ها هنا ـ: ان العداوة مقترنة ـ دوماً ـ بالظلم. يتوكد ذلك بدلالة لغوية ايضا، فالعرب قالت: فلان عدو فلان، معناه: فلان يعدو على فلان بالمكروه ويظلمه.. ومن المفاهيم المستنبطة من الدلالات اللغوية: أن العدو لا يبرح يعدو ويسرف في عدوانه، ويتوخاه أبدا، حتى لكأنه يَنْصَب ويلهث من شدة العدو: تحرياً للظلم، وحرصاً عليه، وركضاً إليه، وتفرغاً للكيد والانتقام والفجور.

* اقتران العداوة بالظلم في القرآن

* هذه الدلالة اللغوية محققة ـ منهجياً ـ في القرآن، فالعداوة والعدوان مقترنان بالظلم في هذا الكتاب المجيد:

1 ـ «يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم».. فلقد تمثل الظلم المفضي إلى العداوة في موقفين: موقف الظلم المعنوي المتمثل في عدم الاعتراف بالوجود الأدبي المبني على الحق، أي على الإيمان بالله.. وموقف الظلم المادي المتمثل في إخراج المؤمنين من ديارهم.

2 ـ وفي السورة نفسها ـ سورة الممتحنة ـ: «إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودّوا لو تكفرون». فهنا، عداوة مركبة ـ كذلك ـ.. عداوة مركبة: مادية ومعنوية، عداوة ظالمة مادية تُمثل في بسط الأيدي والألسنة بالسوء.. وعداوة ظالمة معنوية تمثل في الحرص البالغ على إكفار المسلمين وردهم إلى الوثنية.

ولئن امتلأت حياة البشر بالعداوات ـ محقة كانت أم مبطلة ـ فإن المقياس الذي يلزم أن يعتد به، ويعتمد عليه في التمييز بين العداوة بالحق، والعداوة بالباطل هو: الحق والعدل.

فالحق هو الذي يجمع الناس ويؤلف بين قلوبهم بمحبته، ولمحبته.

وكثيراً ما يرد الحق في القرآن، مقابلاً للهوى، مثال ذلك: «ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق».

وإنما تنشأ العداوات والمظالم من الأهواء، وهي أهواء تنسف العدل نسفاً فتكون عداوة، ويكون ضغناً، ولذلك نهى المنهج عن الهوى: الطارد للعدل، الجالب للظلم، المنشئ ـ من ثم ـ للعداوة: «ولا تتبعوا الهوى أن تعدلوا».

وحين يزول الظلم ـ المترتب على العداوة في دين ودنيا ـ ينفسح المجال والمناخ، ينفسح المكان والزمان لعلاقات مفعمة بالبر وهو اللطف والإحسان: «لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن اللّه يحب المقسطين».

يضم إلى ذلك: أنه لما كان الظلم والاعتداء مجلبة للعداوة والكراهية، فقد كف الإسلام بنيه عن الظلم والاعتداء: تبرياً من الظلم، واجتناباً لكراهية الآخر.

أ ـ «وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان».

ب ـ «ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين».

* منهج: تكثير الصداقات وكسر العداوات أو تقليلها

* من مقاصد الإسلام: تكثير الصداقات، وكسر العداوات وتقليلها أو تلطيفها.

ولهذا المقصد منهج واضح، قامت عليه الأدلة، وتضافرت البراهين.

فمن أصول هذا المنهج:

1 ـ الأصل الأول: أن من حكمة وجود البشر على هذا الكوكب: أن يتعارفوا على اختلافهم في الألوان والألسنة والبيئات والأديان والتقاليد والعادات: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا».

والعقلاء يدركون: أن التعارف الإنساني العام مزدلف عظيم إلى الاتصال والتفاهم.

والعقلاء يدركون: أن التفاهم مفتح ممتاز للإيناس: الناسخ للعداوة، أو الملطف لحدتها وحرارتها ومرارتها.

2 ـ الأصل الثاني من أصول: تكثير الصداقات، وكسر العداوات: معاملة الذي بيننا وبينه عداوة بالحسنى، أو بالخلق الرفيع النبيل الذي يكسر حدة عداوته: «ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم».. هكذا يحول الخلق الرفيع: العدو إلى صديق.

يقول ابن كثير ـ في تفسير هذه الآية ـ: «يأمر اللّه تعالى بمصانعة العدو الإنسيّ، والإحسان إليه، ليرده عنه ـ عن العداوة ـ طبعه الطيب الأصل: إلى الموالاة والمصافاة».

3 ـ الأصل الثالث: التزام العدل مع الأعادي، في أصعب الظروف، وأكثرها حرجاً واستفزازاً، وأشدها إغراء بالاعتداء عليهم.

وذانك برهانان على هذا الأصل:

أ ـ «ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب».. إن جريمة الصد عن المسجد الحرام لهي الجريمة، بيد أن المنهج الحق العدل ينهى عن (الاعتداء) ـ أي مجاوزة الحد ـ على مقترفي هذه الجريمة الكبرى.

ب ـ «يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى».. والشنآن هو شدة العداوة والبغض.. فالعداوة حين توجد ليست رخصة ـ قط ـ في أي حال من الأحوال، بالفجور في الخصومة، ولا إجازة بأن يتصرف المسلم مع من يعاديه دون ضوابط العدل والحق والخلق.

ومما لا ريب فيه: ان في هذا السلوك العادل المضبوط بالخلق الرفيع: ما يكسر العداوة، أو يخمد جذوتها، ويلطف حدتها. فالناس مجبولون على محبة العدل، ومودة من يقوم به ويمضيه.. وهذا طريق من طرق تكثير الصداقات أيضاً.

4 ـ الأصل الرابع: رصد مصرف من مصارف الزكاة لتأليف القلوب التي انطوت ـ لسبب أو لآخر ـ على عداوة الاسلام، الإسلام وأهله.. يقول الإمام الشوكاني: «فالتأليف شريعة ثابتة، جاء بها القرآن، وجعل المؤلفة أحد المصارف الثمانية. وجاءت بها السنة المتواترة».. ولتأليف القلوب وظائف عديدة منها: كسر عداوة المعادين للإسلام وأهله.. ومن المعلوم لغويا: أن التأليف هو الاستمالة بالإحسان والمودة على نحو ينشئ الألفة وينميها، فيكثر الأصدقاء من ثم.

5 ـ الأصل الخامس: سيادة الحسنى واللطف في التخاطب. فمن شأن اللطف واللين في الخطاب: أن يكثر الاصدقاء ويقلل الأعداء: «وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن».

6 ـ الأصل السادس: انه مهما كانت الأسباب المنشئة للعداوة كثيرة، ومهما كانت غلظتها ومرارتها، فإن منهج الإسلام ـ في مجال تكثير الصداقات وكسر العداوات ـ لا يغلق باب المودة والإيناس اغلاقاً مطلقاً أبدياً، بل يجعله دوماً مفتوحا: «عسى اللّه أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة واللّه قدير واللّه غفور رحيم».

هذا هو المنهج الاصلي، وهو منهج متعلق في جانب منه، بموقف الآخر. فاذا كان هناك عدوان وظلم، فليس من العقل، ولا من العدل والكرامة والغريزة: ان يطالب المعتدى عليه بان يشغف قلبه حب من ظلمه ـ معنويا او ماديا ـ، ومن هنا كان للقاعدة استثناء وهو الرد المادي والمعنوي على من ظلم وبغى: الرد المادي الذي شرعته آية: «وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا».. والرد الادبي الذي شرعته آية: «لا يحب الله الجهر بالسوء من القول الا من ظلم». وهكذا، ينوب المنهج: الامة الى الخلق الرفيع في العلاقة بالآخر، ولا يحرجها ـ في الوقت نفسه ـ بحرمانها من الدفاع عن نفسها الذي هو من اوكد حقوق الانسان، والذي تواطأت عليه البشرية كلها، ونصت عليه في دساتيرها.