القرن الواحد والعشرون: هل هناك تغيير؟

TT

المقصود بالتغيير هو الانتقال من وضع صعب او شاق في الحياة الى وضع افضل. هذا ما يتبادر اليه الذهن عادة. وفي مفهوم الزمن ان المستقبل وعد بالتحسن، حتى عندما نقول عن شخص ما إن له مستقبلا نعني انه في المستقبل سيكون شخصا متقدما او في وضع افضل. وعندما نتكلم عن القرن الواحد والعشرين ونحن في سنواته الاولى نتوقع التقدم وحياة افضل، فهذا هو مفهوم الزمن في العقل البشري: انه كلما مضى الزمن ارتقت الحياة البشرية. وربما كان التاريخ والواقع يؤكدان صحة هذا المفهوم.

ولكن التغيير لا يحدث بمجرد مرور الزمن بل بسبب السلوك البشري الذي تتحكم فيه احوال عديدة، وليست كلها اشياء ايجابية في مفهوم التغيير او التقدم. ومع ذلك فان التغير يحدث في الاتجاه الايجابي الى حد ما. انظر الى انجازات التكنولوجيا في حياتنا ابتداء من الاضاءة بالكهرباء الى ثورة الاتصالات والمعلومات. حقا ما زالت على وجه الكرة الارضية اماكن لم تعرف شيئا من هذه الانجازات، ولكن مجمل حركة التغيير اوسع كثيرا مما كانت عليه الاوضاع من قبل. وربما كان صحيحا، على اية حال، ان كل تغيير او تحسن لابد ان يكون وراءه دفع ما، قوة ضغط، غالبا تأتي من قوى اجتماعية قادرة على الدفع والضغط. ولعل هذا هو الذي يدفع الكتاب الى الكتابة، والفنانين الى الابداع، والسياسيين الى وضع السياسات الجديدة، والعلماء الى الاكتشاف. لكل هذه الاسباب اعتقد ان ما نشكو منه الآن من غياب الإنصاف والعدل ـ خاصة في القضية الفلسطينية ـ ليس امرا نهائيا، وأن تغيير سياسة الدول الكبرى المؤثرة ليس مستحيلا، كما ان تغيرالسياسات والنظم المتخلفة التي تعاني منها مناطق عديدة، ومنها منطقتنا، ليس مستحيلا، وأن النهضة التي حلمت بها وحاولتها اجيالنا القديمة منذ مائتي سنة لم تنته او دفنت في رمالنا القاسية. ومع التسليم بأن القوة العضلية بتجلياتها العسكرية او الاقتصادية هي المؤثر الاساسي في التغيير الا انها ليست القوة الوحيدة، فهذه القوة نفسها ليست ازلية في موقع معين او لدى شعب معين وكم شهد التاريخ من انقلاب الامبراطوريات العظمى وتغيير المراكز من مكان الى آخر. وربما كان السياسي اقرب الى الواقع العملي من أي شخص آخر من الفئات التي اشرنا اليها، ولكنه هو نفسه لابد ان يضع عينه على المستقبل وامكانياته حتى اذا كان لم يزل في حكم الغيب.

فالعالم ذو القطبية الثنائية انتهى بسقوط الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة، ولكن ليس معنى ذلك ان العالم سيظل يحكم من جانب قوة كبرى وحيدة مثل الولايات المتحدة، وبالتالي على السياسي الذي يعمل في مجال الشرق الاوسط مثلا ان يركز نشاطه، او قل كفاحه، في قلب الدولة الكبرى خاصة وهي نفسها ليست كتلة واحدة او اتفاقا مطلقا، مثلها مثل سائر المجتمعات حتى مع تميزها بتعدد القوميات المنتسبة اليها، بل عليه ان يضع في حسابه جميع الاحتمالات، حتى الضعيف منها، التي تدور في مناطق العالم المختلفة. نحن نرى ان الاتحاد الاوروبي ما زال ملتصقا بما يمكن ان يسمى بالمصالح الامريكية، وهو الى اليوم لم يتخذ موقفا منفصلا عن السياسات التي تدعو اليها الولايات المتحدة. ومن الواضح ان استقلال الموقف الاوروبي ليس واضحا او واردا الآن، ولكننا نرى على أية حال محاولات او مؤشرات ـ مهما تكن ضعيفة ـ تحاول فيها دول الاتحاد ان تكون قوة دولية جديدة بجوار قوة الولايات المتحدة. ففي الايام الاخيرة تباين الموقف الاوروبي شيئا ما عن الموقف الامريكي بالنسبة للقضية الفلسطينية من خلال تصريحات لوزير الخارجية الفرنسي هوبير فيدرين، ثم من خلال ممثل الاتحاد، وكذلك الامر بالنسبة للتهديدات الامريكية لدول «محور الشر» الثلاثة، وبصفة خاصة العراق وايران. على ان الاهم من كل ذلك ان هناك تفكيرا في تقوية الاتحاد باختيار شخصية كبرى لقيادته، وقد اشار احد رؤساء الحكومات الاوروبية الى حاجة الاتحاد الى زعامة قوية، او قيادة لها وزنها في المجال الدولي، وتوقع ان يكون القائد الجديد من بين رؤساء الوازات، وأشار بعض الكتاب الى توني بلير رئيس الوزارة في بريطانيا ليتولى قيادة الاتحاد الاوروبي، ربما بعد انتهاء مدة ولايته في بريطانيا. والاشارة الى بلير لها مغزى واضح، فهو من اكثر القيادات الاوروبية انشغالا بالقضايا الدولية وقد تميز بأسفاره الكثيرة الى مناطق متعددة تعاني من المشاكل مثل الشرق الاوسط، فضلا عن القارة الافريقية ومناطق اخرى في القارة الاسيوية. وقد عرض بلير رؤية شاملة للاوضاع في العالم، ومن الناحية النظرية بدا ما طرحه من حلول شيئا منطقيا وهو في مجمله ينقل العالم من حالات الحرب والمواجهة الى السلام والاستقرار. وفي هذه الرؤية حلول لمشاكل الفقر والتخلف، فضلا عن المشاكل السياسية الاخرى كالقضية الفلسطينية ومشكلة كشمير وغيرهما من المشاكل الدولية، ومن بينها مشكلة جبل طارق الذي ما زال تحت السيطرة البريطانية منذ عدة قرون. وقد تكون رؤية بلير السياسية قريبة من رؤية الرئيس الامريكي السابق بيل كلينتون، ولكنها في الواقع اوسع واوضح وربما اقرب الى العدالة وتنطوي على منطق قوي لتأصيل فكرة المشاركة البشرية. وعلى الرغم من النقد الذي وجه الى بلير في بريطانيا من قبل اليمين واليسار الا أنه بالفعل جاء الى الحكم ولديه رؤية واضحة سبقتها ادبيات لحزب العمال عن «الطريق الثالث»، وهو موقف جديد مختلف عن اليسار التقليدي، وليس صحيحا انه تبنى الكثير من آراء المحافظين، كما أشار بعض ناقديه. وقد بدا ان الطريق الثالث صار خطا سياسيا او فكريا شجعه الناخبون في الدول الكبرى الاساسية ـ المانيا وفرنسا بصفة خاصة ـ فضلا عن ان كثيرين من المعلقين السياسيين كانوا يصنفون الرئيس الامريكي السابق كلينتون ضمن اصلاحيي هذا الطريق. هناك اذن رغبة وتفكير في تقوية الاتحاد الاوروبي من دون ان تكون هناك ضرورة للقول ان وراءه ايضا رغبة في الا يخضع العالم لقوة دولية واحدة او لقطب اوحد. بالطبع لسنا في الطريق الى استقطاب آيديولوجي آخر تقف فيه الولايات المتحدة في جانب والاتحاد الاوروبي في جانب آخر. فمن الصعب ان يتميز «الطريق الثالث» بمواقف بعيدة عن الليبرالية الجديدة، بل ربما صارت اللبرالية جديدة بسبب هذه الرؤية الجديدة التي يبدو انها حاولت ازالة التناقض بين اقتصاد السوق ومتطلباته وبين الحقوق الانسانية المختلفة ودور الدولة في مساندتها او مسؤولية تحققها، وهو امر تحقق الى درجة كبيرة في الدول الاوروبية منذ وقت مبكر يزيد الآن على نصف قرن من الزمان، وهي ليست بعيدة عن تصورات الكثير من الامريكيين اليوم. والواقع ان النظم القائمة، سواء في الولايات المتحدة او في اوروبا والدول الديمقراطية بشكل عام، تشهد تصدعات هنا او هناك وهي امور تتطلب التدخل السياسي لاصلاحها. فالاضطرابات التي حصلت في افلاس شركة «انرون» ومساسها بالنظام السياسي نفسه واشارتها المختلفة الى التبرعات الكبيرة التي دفعت لمساندة السياسيين في الدعاية الانتخابية لم تعد مجرد اشارات عابرة. ويبدو ان بريطانيا ستكون السباقة الى ايجاد حل حاسم لمنع تأثيرات الشركات الكبرى على السياسات في دولها، سواء عن طريق التبرعات بمبالغ ضخمة او اي طرق اخرى، فقد اشارت الصحف البريطانية مؤخرا الى ان توني بلير يفكر جديا في ان تتكفل الدولة بنفقات الدعايات الانتخابية وأن يتحملها دافع الضرائب البريطاني، وقيل بالفعل انه بدأ الاتصالات مع الاحزاب الاخرى لاقرار هذا الموقف. ولا شك ان هذه خطوة حاسمة في طريق الديمقراطية وتصحيح الاخطاء التي اوقعت الكثير من السياسيين في مآزق سيئة. من الناحية الاخرى، بدا ان محاكمة الرئيس اليوغوسلافي السابق سلوبودان ميلوشيفيتش اتجهت الى ان تكون بداية لتحول اساسي في النظام الدولي. وامكن لاول مرة منذ محاكمات نورمبرغ عقب الحرب العالمية الثانية 1939 ـ 1945 ان تُشكل محكمة دولية لمحاكمة الحكام الطغاة الذين آذوا شعوبهم وقاموا بجرائم بشعة ضد الانسانية. وفي هذا المجال ثار جدل حول تشكيل هذه المحاكم التي يشترط فيها الا تكون محكمة منتصر ضد منهزم، وهو النقد الذي اثاره ميلوشيفيتش نفسه، ولم يكن صحيحا في الواقع. على أنه صار من الواضح ان هذا النوع من المحاكم والمحاكمات في طريقه الى الاستقرار، كما ان الكثير من الصحف ـ خاصة في بريطانيا ـ راحت تشير الى الطغاة ولم تستثن سفاحا تحت حماية ما مثل ارييل شارون. كل هذا من الممكن ان يكون مقدمات لاعادة النظر في المنظمة الدولية التي أُهملت كثيرا، والتي تم تخطيها في مشكلات دولية كثيرة كانت تتطلب تدخلا دوليا قانونيا وديمقراطيا. الدعوة للاصلاح في اي بقعة من بقاع الارض لم تعد محدودة بالقطر او الاقليم الذي تقع فيه، بل صار لها بعدها الآخر وهو البعد الدولي الذي ينبغي ان يشارك فيه الجميع، في ما يسمى بالدول المتقدمة او دول العالم الثالث، وربما كان السياسي من العالم الثالث متساويا في مسؤوليته عن الاصلاح الدولي مع سياسي العالم المتقدم او يزيد عليه بحكم التأثير الدولي غير المنكور على الكثير من المشاكل الداخلية التي تعاني منها هذه المجتمعات. ومهما يكن من أمر، فان توقع التغيير والعمل على تحقيقه ليسا موقفين خياليين او غير عمليين. قد يكون السياسي في حاجة الى أن تكون نظرته اكثر واقعية ولكن الكتاب والفنانين والعلماء ليسوا مقيدين باللعبة السياسية، وهم اولا واخيرا الذين يضعون خرائط العمل امام السياسي والرأي العام في الاوطان وفي كل ارجاء العالم.