رسالة صريحة بانتظار... البوسطجي

TT

ما هو القاسم المشترك بين زعيمة بريطانية متقاعدة ما زالت تضل حتى اللحظة عن «حسن الختام»، ووزير اميركي خذله ناخبو ولايته مفضلين عليه مرشحا متوفى، وصحافي اميركي يهودي لوذعي يتمتع بقلم جريء واطلاع ممتاز لكنه لفرط تحرّره واستقلاليته يتغاضى عن حقائق مؤلمة... لكنها موجودة؟

القاسم المشترك ان الثلاثة، البارونة مارغريت ثاتشر ووزير العدل الاميركي جون آشكروفت والصحافي الاميركي توماس فريدمان، خاضوا خلال الاسبوع الماضي في مسائل تمس الاسلام والعرب والشرق الاوسط، كل في سياق، بصورة استحقت الجدل والتعليق...

ولتكن البداية مع فريدمان، الذي اعتبره شخصياً احد افضل الكتاب الغربيين اليوم، ولا سيما في ما يتعلق بالشرق الاوسط والاسلام ومستقبل العالم الثالث. مشكلتي ـ كقارئ وكعربي وكليبرالي ـ مع فريدمان انه يبدو لي مضطراً لمخاطبة الشارع الاميركي باللغة الذي يفهمها هذا الشارع رغم ما فيها من عموميات ومسلّمات. غير ان فريدمان اعمق بكثير مما تعكسه كتاباته احياناً... واكثر ثقافة واطلاعاً واحتكاكاً مع غير الاميركيين والغربيين واليهود من معظم اترابه. وهنا بالذات تكمن الاشكالية مع فريدمان المثقف الذي يحرص على ألا يفقد قارئه ولا يستفز دولته ولا يقيم القيامة مع مدّعي التكلم باسم يهود اميركا والحرص على مستقبل اسرائيل. بالأمس قرأت لفريدمان كعادتي كل اسبوع عموده في الـ«نيويورك تايمز»، الذي تنشره ايضاً الـ«انترناشونال هيرالد تريبيون» وتنشره مترجماً للعربية «الشرق الأوسط». ثم تلقيت من صديقة اميركية نسخة من العمود بالبريد الالكتروني بأمل الاطلاع عليه والتعليق على ما ورد فيه. والواقع ان العمود ـ المقالة («الشرق الأوسط» عدد يوم الثلاثاء 12/2/2002 انطوى على عدد من النقاط التي تستحق البحث.

منها، مثلاً، ان اي سؤال او اي جواب يأخذ صفة «المطلق» يفتقر الى الدقة. وإذا كان السؤال عن حقيقة تعمّد «يهود» (ليس اليهود) في الاعلام الاميركي الاساءة الى المملكة العربية السعودية والاسلام قد حفّز فريدمان لإجابة انتقادية، وجب على السائل والمجيب الالتزام بالدقة في الاتجاهين. فمما لا شك فيه ان هناك اقلاما يهودية في الاعلام الاميركي وعقولا يهودية في قلب الحياة الفكرية الاميركية (وغير الاميركية) معادية لكل انواع التعصب الديني ومناهضة علناً للصهيونية، وبالذات لليمين الاسرائيلي المتطرف الذي يجسّده آرييل شارون وحلفاؤه.

ولكن إذا كان صحيحاً ان ثمة مراسلين وصحافيين يهوداً كشفوا فظائع الغزو الاسرائيلي للبنان وبخاصة مجزرة صبرا وشاتيلا ـ منهم فريدمان نفسه ـ... وإذا كانت هناك اقلام واصوات يهودية قادت حملات طالبت فيها بتدخل الولايات المتحدة لإنقاذ المسلمين في البوسنة وكوسوفو، وردّ الغزو العراقي للكويت على اعقابه، وحماية السعودية ودول الخليج، فهناك امور اخرى صحيحة ارجو ان يوافقني المستر فريدمان عليها..

اولها، ان لدى المواطن العربي منذ 1948 أزمة حقيقية تتمثل في صعوبة التمييز بين الموقف الاميركي المؤيد لإسرائيل وموقف يهود اميركا من إسرائيل (ظالمة او مظلومة)، وفي اتخاذ قرار جازم حاسم ازاء ذلك السؤال القديم هل اميركا هي التي تحرّك اسرائيل... ام ان اسرائيل (عبر اللوبي الصهيوني الاميركي) هي التي تتحكم بأميركا وقراراتها الاقليمية؟

ومما اجد نفسي مضطراً لأن اصارح به المستر فريدمان ـ الذي سعدت بالتعرف اليه والدردشة معه قبل خمس سنوات خلال مؤتمر طال ثلاثة ايام ـ ان السواد الاعظم من «اصدقاء اميركا» من العرب زرعوا في عقول مئات الملايين من الشباب العربي اقتناعاً راسخاً بأن اليهود هم سبب البلاء وان «اميركا مسكينة» يلعب بها الصهاينة كما يشاؤون. ان فكرة «العداء للسامية» في العالم العربي التي يرغب بعض الاعلاميين الاميركيين المؤيدين لإسرائيل في ترويجها اليوم... فكرة ولدت أصلاً في بعض الاوساط العربية دفاعاً عن الانحياز الاميركي الاعمى لإسرائيل على امتداد اكثر من نصف قرن. وبالتالي اعتقد ان على اشخاص بوزن توماس فريدمان ان يفكروا في أن هناك حالات معينة لا تتطابق فيها بالضرورة مصالح واشنطن مع مصالح اسرائيل. وعلى السياسي او المفكر السياسي اليهودي الاميركي ان يعي هذه الحقيقة في تعامله مع الآخرين، حتى وان غفل عن التنبه لها داخل دهاليز المصالح المتشابكة في الولايات المتحدة.

وإذا عزفنا عمداً عن الخوض في موضوع الخليج لاسباب يعرفها المستر فريدمان واعرفها، لنأت الى موضوع البوسنة وكوسوفو. انا اوافق المستر فريدمان تماماً على ان الموقف العام ليهود اميركا كان لصالح حماية الاقلية المسلمة في البلقان. غير انني اود الاشارة الى ان السبب المباشر لهذا الموقف كان التخوف اليهودي التاريخي من تعاظم خطر النزعة «العسكريتارية» المسيحية في قلب اوروبا، واليهود هم اول وابرز ضحاياها... ابتداء من «محاكم التفتيش» في اسبانيا ومروراً بـ«بوغرومات» روسيا وانتهاء بـ«المحرقة النازية». وهنا ايضاً لا اود زرع إسفين في العلاقة التضامنية الاميركية ـ اليهودية، لكنني ازعم ان تعجّل الولايات المتحدة ودول اوروبا الغربية سقوط الاتحاد السوفياتي والكتلة الشرقية اسهم إسهاماً مباشراً في تشجيع اسلاميي البوسنة وكوسوفو ومحافظي كاثوليك كرواتيا على السعي للانفصال... وبالتالي تنامي عقدة الاضطهاد الصربية. فشهدت منطقة البلقان ما شهدته من كوارث ومجازر. وصراحةً لا احسب انه فات الدول الغربية ـ بما فيها الولايات المتحدة ـ احتمال تعرض الاقليات المسلمة الى مجازر على ايدي الصرب. بيد ان الغاية السياسية الاعلى يومذاك استنسبت التضحية بآلاف المسلمين وذرف الدموع عليهم لاحقاً. واليوم نجد العدالة الدولية وقد طالت «الذئب الصربي» سلوبودان ميلوشيفيتش، لكنها لم تسأل ولن تسائل من فتح عمداً لذلك «الذئب» باب الحظيرة.. عندما كانت الشياه نائمة. الى المستر فريدمان أقول، انا مع كل ما تدعو اليه عن تحمّل العرب والمسلمين مسؤولياتهم. انا معك في مطالبتهم بالكف عن العيش في الماضي... وتحميل الآخرين في كل يوم وكل ساعة المسؤولية في ما يصيبهم من أذى. انا معك في ان يعيشوا في القرن الـ21. انا معك في ان يعوّدوا انفسهم على نقد الذات والمحاسبة...

ولكن ماذا تقول يا سيدي عن الأمور الاخرى؟ مثلاً، عن سجل اليمين الجمهوري الاميركي في ترويج الديمقراطية وحقوق الانسان، من الفلبين واندونيسيا شرقاً الى تشيلي غرباً؟ وفي «مكافحة» إرهاب «الكونترا» في نيكارغوا و«رينامو» في موزامبيق و«يونيتا» في انغولا؟

ماذا تقول عن حكم الجنرالات... والقوى الكبرى التي تدعم حتى الساعة حكم الجنرالات في تركيا وباكستان، والتي دعمت طويلاً العسكريتاريا في اليونان واندونيسيا وكوريا الجنوبية ودول اميركا اللاتينية؟ ماذا تقول عن ذلك المخطِّط السياسي والاستراتيجي الاميركي النافذ حالياً الذي يقول صراحةً ـ وقد قالها امامك قبل خمس سنوات ـ «ان واشنطن تفضل ان يكون حلفاؤها ديمقراطيين... لكنها لا تسعى الى اي تغيير نحو الديمقراطية قبل ايجاد البديل المقبول لديها»؟ انها مجرد اسئلة، اعتقد انها تستحق منك وقفة تأمل مع سوء فهم العالم احياناً للسياسة الاميركية.

* * * وهنا نأتي الى ما جادت به قريحتا البارونة ثاتشر والوزير آشكروفت. ومما لا ريب فيه انه يشير بوضوح الى حالة خطيرة في الفكر السياسي الغربي، وبالذات في النظرة الى الحضارات الاخرى... غير البيضاء، وغير المسيحية، وغير الاوروبية ـ الاميركية.

ما كتبته ثاتشر وما قاله آشكروفت يعبّر من قلب «مؤسسة السلطة» عما كانت تخجل هذه «المؤسسة» عن التصريح به في سنوات ما قبل «الاحادية الاميركية»، فكان يصدر عن جماعات هامشية واقلام ناشطة في الظل.

اما اليوم، بعد 11 سبتمبر (ايلول)، فقد بات مسموحاً لها مواجهة التشدّد بتشدد اقوى واعتى، والعداء التبسيطي والتبريري والتشويهي بعداء اقوى واعتى، والتمييز الديني والثقافي بتمييز انتقامي اقوى واعتى. وعند هذا المفصل اعتقد ان الموقع الطبيعي للصديق توماس فريدمان هو في صفّي انا.. وليس في صف البارونة او السيد الوزير المحسوب على «الاصوليين الانجيليين»!