أرض الأجداد وأرض الدولار

TT

ذهل الكثيرون من ظاهرة «الوطنية» التي اجتاحت الولايات المتحدة منذ 11 سبتمبر (ايلول) الماضي. الاعلام ترفرف على السيارات والدراجات والبيوت والدكاكين، الناس يحيون بعضهم البعض بكلمات «يبارك الله اميركا» بدلا من التحية التقليدية. كل هذا الاندفاع للانتقام واستعراض العضلات الاميركية وازدراء كل افكار الدول الاخرى. فاجأنا هذا الفوران الوطني للاميركيين. وقد فاجأنا لأننا كنا نعتبرهم مجرد خليط من المهاجرين والافاقين الذين ما زال الكثير منهم يرتبطون بأوطانهم الاصلية في العالم القديم. ما الذي دفعهم الى هذا التعلق الشوفيني المتطرف بأميركا؟

بالنسبة لنا نحن نفهم الوطن بأنه «ارض الآباء والاجداد». هكذا علمونا في المدارس. ولكن القليل من هؤلاء الأميركان من يستطيع ان يشير الى قبر جده هناك. في كل اللغات الأوروبية الوطن هو الباتريا Patria المشتقة من لفظة الأب. ومن الباتريا اشتقوا كلمة الباترياتك (الوطني). هذه الناحية منتفية عن معظم الاميركان.

لقنوننا في المدارس بأن علينا ان نحارب ونستشهد ونبذل الغالي والرخيص للدفاع عن الوطن لأنه ارض الآباء والاجداد، وارض الأنبياء والأولياء. ولكن تجارب اكثرنا في سائر العالم الثالث، لم تظهر كثيرا من الالتزام بهذا المبدأ. لم يظهر اكثرنا مثل هذا التفاني من اجل الوطن. ما ان اتيحت فرصة للهجرة منه حتى قفزنا اليها. وفينا من ابدى كل استعداد لبيع وطنه بقرشين، بل وكان هناك من تطوعوا للاجانب للتجسس عليه طوعا وكرما منهم. التقيت في اسطنبول بخادم عراقي في مقهى، باع اهله جل ما عندهم من متاع وسلموه له ليخرج ويشق طريقه الى اوروبا. قال لي، ودعه والده قائلا: «روح يا ابني لأي بلد ما تشوف فيه تلفزيون عربي».

لا فكرة ارض الآباء والأجداد ولا مزارات الأئمة والأولياء شدت المواطن لوطنه او اضرمت في قلبه مشاعر الوطنية. ولكن هؤلاء الأفاقين الذين جاءوا مهاجرين للشواطئ الاميركية دون ان تربطهم أي رابطة بها، حتى ولا دينية في اكثر الحالات، سرعان ما امتلكت افئدتهم مشاعر الروح الوطنية لأميركا والولاء لرايتها. ما السر في ذلك؟ انه بكل وضوح وصراحة الخير الذي وجدوه فيها. من شحاذين معدمين اصبحوا مليونيرات مدللين في سنوات قليلة. قصور وفيلات ويخوت وطائرات خاصة وسيارات فارهة وقوانين تحمي غنائمهم وحقوقهم.

تلكم التربة لا ما سميت وطنا ينبت جوعا وعراء قال الجواهري وما ابلغ ما قال. ففي آخر المطاف واجهنا هذه الحقيقة الأبدية، فإنما الدنيا يصرف من اعنتها الرغيف. كلمة اخرى للجواهري. حيث يوجد الرزق يوجد الوطن. لا قبور الآباء والأجداد ولا مزارات الأئمة والأولياء ولا امجاد الماضي التليد تشد انسانا لأرضه. لا خير في وطن لا يعطي اهله غير الجوع والمرض والعراء والكبت والفقر. يعطيهم الضيم والظلم ويريد منهم الروح والدم. اذا لم يكن للمواطن ناقة أو جمل، فلا تنتظر منه ان يقاتل في حرب لا ناقة له فيها ولا جمل.

أكثر من قرن من الزمن ونحن نتكلم عن الوحدة العربية والأمة الواحدة ذات الرسالة الخالدة دون ان نحقق أي شيء منها رغم كل ما يجمعنا من تاريخ وتراث ودين. وهؤلاء القوم من افاقين مشردين جاءوا بلغاتهم المختلفة من اوطان وقارات متعددة واديان متناقضة واذا بهم في سنوات قليلة يلتحمون في كتلة واحدة تتحدى العالم برمته وتسود عليه. جمعهم هذا الشيء الواحد المشترك: الدولار والرغيف.