هذا «الهجوم» على تحرير الاقتصاد

TT

افضل دفاع في الحرب، هو الهجوم، وهذا ما فعلته الحكومة اللبنانية بعد جلسات مناقشة الموازنة الاخيرة التي تعرضت خلالها الى هجوم عنيف من النواب، جعل نائب رئيس المجلس النيابي «يعتبر الحكومة راحلة». فما ان نالت الحكومة موافقة المجلس على الموازنة حتى أخذ وزير المالية يخرج من جعبته مشاريع القوانين المالية الجديدة، وكلها من «العيار الثقيل» اي من شأنها احداث تغييرات كبيرة وعميقة في هيكلية الاقتصاد اللبناني، ابتداء بتطبيق ضريبة القيمة المضافة، وانتقالا الى رفع الحماية عن الوكالات التجارية الحصرية بالاضافة الى الحديث عن قوانين اخرى تخصخص عدة قطاعات عامة، كالكهرباء والماء والهاتف والمرافئ، وربما وصولا الى صندوق الضمان الاجتماعي. وغيره وكل قطاع يؤدي تخصيصه الى وقف عجزه والدعم الحكومي له.

بطبيعة الحال لم يصفق اللبنانيون في اكثريتهم لهذه «الاصلاحات» المالية والضريبية.

اولا: لأنها جاءت مفاجئة ومتسارعة ونظرا لجو اللاثقة السائد، تقليديا، بين الدولة والشعب، الذي تعمق بعد الحرب وحلول «طبقة» سياسية جديدة في الحكم تدعمها قوى خارجية وشريحة من السكان، غير التي كان التجار والصناعيون يرتاحون اليها قبل الحرب.

وثانيا: لأن اللبناني، بل كل انسان، لا يحب دفع ضرائب جديدة، خاصة عندما يكون مقتنعا كما هو معظم اللبنانيين بأن الضريبة لا تجبى من الاغنياء والذين يحققون ارباحا كبيرة من قطاعات معفاة او بالتهرب منها، وبأن جزءا كبيرا من المال العام يهدر في قطاعات غير منتجة او بسبب فساد الادارة وضخامة حجمها وتخلفها. وهناك اسباب اخرى للاعتراض على القوانين والتدابير الحكومية الجديدة: سوء التنفيذ، زيادة الاسعار بدلا من انخفاضها، زيادة التهريب والتزوير والتقليد للبضائع المستوردة، نشوء ما يسمى بـ «المضاربة الطفيلية».

وزير المالية اللبناني دافع عن سياسة الحكومة في اكثر من رد على هذه الاعتراضات بما ملخصه: ان الحكومة مضطرة، بل لا خيار امامها، سوى اتباع هذه السياسة، لأن العالم كله يسير في هذا الاتجاه، اي «تحرير الاقتصاد» ودخول العولمة (الشراكة الاوروبية واتفاقية التجارة العالمية) وتقليص القطاع العام واستبدال الضرائب والرسوم المباشرة بالضرائب على الاستهلاك. وايضا لأن هذا هو الطريق الوحيد لزيادة موارد الدولة وانعاش الاقتصاد وبالتالي خفض العجز وايفاء الدين العام والحصول على المساعدات الدولية.

في الواقع، لا يخلو موقف الحكومة اللبنانية، من المنطق او الصحة، كذلك موقف منتقدي هذه السياسة المالية والاقتصادية الجديدة ومعارضيها، والوقت او الزمن وحده هو صاحب الكلمة الفصل في من هو على حق. إلا ان نظرة اشمل او ابعد الى هذا التحول الاقتصادي في لبنان نحو مزيد من الليبرالية (او التحرير كما يصر وزير المال اللبناني على القول) واستعدادا لدخول العولمة الآتية لا محالة، تحمل على طرح عدة اسئلة:

سؤال أول: هل صيغة او شكل او قواعد «تحرير الاقتصاد» هي ذاتها، وصالحة لكل الدول والشعوب بصرف النظر عن واقعها وعن المرحلة الوطنية والسياسية والاقتصادية التي تمر بها؟

سؤال ثان: هل من مصلحة لبنان او اي بلد عربي آخر الدخول في شراكات اوروبية او عالمية، قبل تحقيق شراكة عربية حقيقية؟، بل وشراكة لبنانية سورية اقتصادية مميزة، كما هي شراكتهما السياسية الراهنة؟

سؤال ثالث: مما لا خلاف عليه في لبنان، ان الهدر هو الذي لحق بالمال العام، خلال السنوات العشر الاخيرة، وكان من جرائه تحميل الخزينة اللبنانية اي الشعب اللبناني بالنتيجة، دينا عاما مقداره ثلاثون مليار دولار، وانه لا بد من وقف الهدر، فهل تقبل «الطبقة» او «الجماعات» او «الجهات» التي استفادت ولا تزال من هذا الهدر، بقطع مغانمه عنها؟ وهل تجدي القوانين الجديدة في زيادة موارد الخزينة اذا بقي الهدر و «المافيات» او «الحيتان»، كما تسمى هنا، حيث هي قابضة او مستفيدة منه.

سؤال رابع: هل يسير او ينجح الاصلاح الضرائبي او هذه الثورة التحريرية في الاقتصاد اللبناني، من دون اصلاح اداري حقيقي، يحدث في الادارة ويقلص حجمها وهدرها ويزيد انتاجيتها ويوقف الفساد فيها؟ وهل الاصلاح الاداري ممكن من دون اصلاح سياسي؟ وهل الاصلاح السياسي ممكن في ظل الدستور اللبناني الراهن «الذي يقدم الوفاق الوطني على كل اعتبار او نص دستوري آخر» او من في يده اليوم تحديد «مفهوم» او «شروط» الوفاق الوطني في لبنان؟ والمحافظة عليها؟ هل هو المجلس النيابي؟ ام الحكومة؟ ام من في يدهم، حقيقة امر السهر والمحافظة او «تهديد» هذا الوفاق؟

سؤال خامس: عامل الوقت والتنفيذ. فنتائج اي سياسة اقتصادية كما هو معروف لا تظهر قبل عدة اعوام، كما ان سوء التنفيذ يحول اي قانون او سياسة عن غايتها، ويجعلها اداة او وسيلة للاستفادة غير المشروعة من قبل «الشطار» المزورين والمهربين والراشين والمرتشين وما لم يتحقق اصلاح الادارة ويطبق القانون على «جميع اللبنانيين»، فإن الاقتصاد اللبناني «المحرر» جدا جدا قد يحول لبنان لا الى «دبي» جديدة، كما يحلو للبعض التشبه بها او تقليدها، بل الى «غابة اقتصادية» لا يعرف احد مداخلها او مخارجها. وهذا ما لا يتمناه احد في لبنان، او للبنان، بل هذا ما يجب على جميع اللبنانيين، حكما وشعبا، حكومة ومعارضة، التعاون والعمل على تلافيه.

المسألة خطيرة جدا وتتعدى كل الاعتبارات والمصالح السياسية والطائفية، لا سيما في الظروف الدولية والاقليمية الراهنة، التي لا تترك كبير مجال للعب بالنار وبالاقتصاد. فكيف بهما معا؟ وفي آن واحد؟؟