من يحاول اغتصاب الكويت للمرة الثانية؟

TT

تطفو على سطح المستنقع السياسي الآن حالة اعتبرها أشد الحالات خطرا على مستقبل العالم العربي، هذه الحالة هي حالة اعلامية تحاول ان تحارب حرب الخليج 90/91 بأثر رجعي، جماعة لم يرضها ان تعود الكويت حرة، وهي الآن تدفع الرأي العام العربي في اتجاه احتضان صدام حسين، على حساب استقلال الكويت، وظن هؤلاء أن احد عشر عاما كافية لأن ينسى العرب ما حدث، وتصبح الضحية هي الملومة، بينما يعود القاتل الى الصف العربي بعد ان غسلت ثيابه على صفحات الصحف. في هذا المقال سأتناول أمر هذه الجماعة، واجيب على سؤال مفاده ماذا لو كنت كويتيا؟ وهل تعلمنا الدرس في ما يخص المتغيرات الدولية منذ 1990؟

الظاهرة الجديدة التي تحاول ان تلوم الكويت بدعوى ان العراق قد ظلم من جراء العقوبات، هي جماعات تضع العربة قبل الحصان وتقرأ الأمور بشكل مغلوط من حيث الأسبقية من السببية، فهجوم العراق على الكويت واحتلالها وتشريد اهلها وسرقة بيوتهم واعمدة اضاءة شوارعهم، هو الذي تسبب في الحرب، وهو الذي أدى الى قرارات مجلس الأمن، والعقوبات، وليس العكس. ان الذين يلومون الكويت على مأساة العراق لا يمكن وصفهم الا بالجنون. ان الذي يتصور ان الحصار الاقتصادي على العراق الحادث في عام 2002 هو الذي ادى الى حرب 1991 لا يمكن وصفه الا بالمخبول، واذا ما تزايد عدد هؤلاء في العالم العربي، ممن يقرأون التاريخ بالمقلوب، فمعنى ذلك ان مستقبل هذا العالم متجه الى طريق لا يعلم الا الله منتهاه، ولم لا ومن بين ظهرانينا الآن، من يتحدثون عن غزوة «منهاتن» في اشارة لما حدث في 11 سبتمبر، وحالة الدمار التي حلت بمدينة نيويورك الأمريكية. بالطبع في الحديث عما حدث على انه غزوة فيه تبرير لما حدث، وفيه تطاول حيث يرى هؤلاء انفسهم في موقف الرسول وصحبه، والفرق واضح للجميع بين الثرى والثريا.

ولكن حالة الحديث المختل هذه تلفت نظرنا الى ان جماعة «بن لكن» التي كتبت عنها في هذا الموضع منذ شهور ليست جماعة طارئة ولكن لها اصولا تاريخية تعود الى حرب الخليج 90/91 في اسوأ التقديرات، جماعة تعيش في المساحة الرمادية، لا تملك قدرة التمييز بين الحلال والحرام، بين الخير والشر، بين الغادر والمغدور، هي جماعة تتاجر بالأمة من خلال انتاج لخطاب غير اخلاقي يتسم بالميوعة.

وجماعة «بن لكن» اشد خطرا على مستقبل الأمة من جماعة بن لادن الارهابية، وذلك لأن جماعة بن لادن واضحة في وسائلها واهدافها، وبالتالي يمكن تطويقها ومحاصرتها اعلاميا وسياسيا وامنيا، اما جماعة «بن لكن» فهي تلك الجماعة ممن يلبسون آخر تقليعات الموضة، والتي تمسك العصا من المنتصف، وتخلط المياه النقية بالمياه الراكدة، وتشجب الارهاب في العلن وتباركه سرا، وفي بعض الأحيان تحرض على الارهاب والقتل والاغتصاب بدعوى ان ذلك قصاص تاريخي لما قام به الاستعمار في الزمن الغابر، رغم ان ايا من هؤلاء الكتاب لم يعش فترة الاستعمار ولم يدركه.

ان اعادة الحديث عن الكويت وتصويرها على انها هي السبب في مأساة العراق لهي اللعبة الجديدة من الاعيب جماعة «بن لكن». ترى ماذا لو كنت كويتيا وتسمع هذا الحديث الذي يحاول تبييض صورة صدام حسين المعتدي على حساب شعب استبيحت حرماته؟

كنا في الكويت منذ بضعة اعوام لحضور مؤتمر عن العلاقات الكويتية ـ العراقية، ويومها تحدث مسؤول عربي عن مبادرة سلام بين الكويت والعراق، وكان ردي يومها وتعقيبي على هذا القول هو تعقيبي اليوم، بمعنى ان هناك قواعد وقوانين وكذلك اصولا لاطلاق مبادرة سلام، ودعني هنا اذكر ببعض هذه القواعد والأصول. هذه القواعد والأصول هي: 1 ـ ان الدولة التي تطرح مبادرة سلام يجب ان تكون اولا قادرة على حماية حالة السلام المزعومة.

2 ـ حماية حالة السلام هذه تتطلب من الدولة صاحبة المبادرة ان يكون لديها القوات التي تضعها بين الدولتين المتنازعتين لردع اي منهما من اتخاذ او القيام بأي سلوك متهور.

3 ـ كذلك من اصول واعراف العلاقات الدولية ان تكون الدولة صاحبة المبادرة قادرة على منح الجانبين، حالما حدوث السلام، اموالا لبناء الاقتصاد وبناء الثقة ايضا كما حدث في حالة تبني الولايات المتحدة الأمريكية معاهدة السلام بين مصر واسرائيل.

وكان سؤالي للمسؤول العربي، آنذاك، ويبقى سؤالي للجميع الآن هو: هل هناك دولة عربية منفردة، او مجموعة دول عربية مجتمعة، تنطبق عليها المواصفات آنفة الذكر، بمعنى قدرتها على ارسال جنود بين الدولتين، او منح اي منهما منحا مالية، او لديها القدرة على حفظ السلام المزعوم؟ الاجابة بالطبع تكون بالنفي في حالة العقلاء اما في حالة جماعة «بن لكن» والغلاة، فستكون كالآتي، «هذا يفتح الباب للاستعمار، ولا بد من حل عربي» الى آخر منظومة الكلام «المخلل» ـ او المعلب، الذي سمعناه منذ نعومة أظفارنا ولا يستحي اصحابه من تكراره. لو كنت كويتيا لسددت اذني تجاه هذا الكلام الرخيص الذي يعد بمثابة المقامرة بمصير شعب، ورخص الكلام قادم من اصحابه الذين يطلقونه على المقاهي، لن يتكلفوا ولم يدفعوا ثمنا عندما احتل صدام حسين الكويت. الذي دفع الثمن هو الشعب الكويتي، واعرف ان بيننا من تدفعه احقاده للتشفي من الكويتيين فقط لانهم افضل حالا من حيث ارتفاع مستوى المعيشة من بعض البلدان العربية الأخرى، ولكن هل تصل درجة هذا الحقد الى ان تعمينا عن معرفة من هو الظالم ومن هو المظلوم. لا بد للمقامرين بأمن الكويت ان يضعوا انفسهم في موضع اهل البلاد، فالكويت على بعد ساعات من العراق، انه قد تكون نائما آمنا في سريرك في الكويت في العشية لتجد نفسك اسيرا في البصرة قبل ان يظهر ضوء الصباح.. اما من يتحدثون عن مصالحات دونما ضمانات فهم بعيدون مئات الاميال عن مسرح الجريمة وعن الخطر المستقبلي.

لماذا اكتب عن الكويت وانا لست بكويتي؟ اكتب عن حالة الكويت الآن ذلك لان ظهور هذه الجماعات الجديدة التي تود محاربة حرب تحرير الكويت بأثر رجعي، هي مؤشر لمرض عضال في هذه الامة، حالة مرضية تقرأ التاريخ بالمقلوب، اذ ترى ان العقوبات التي حدثت بعد الاحتلال هي سبب الاحتلال، كذلك هي مؤشر على غياب الوعي النقدي في العالم العربي وسيادة عقلية القطيع، كذلك هي مؤشر يؤكد عقلية تعويضية تحاول ان تغير هزيمة وقعت على ارض المعركة وتصورها على انها نصر على صفحات الصحف، وما حالة 67 بالمثل البعيد. واضح اننا وحتى هذه اللحظة لم نشف من مرض 67، وعقلية نكران الحقيقة ودفن الرؤوس في الرمال.

ان كانت جماعة «بن لكن» مصرة على المقامرة بمصير دولة عربية، فلا يجب الانجراف مع هذا التيار وخصوصا ان العراق الآن مؤهل ان يكون هدفا لحرب اخرى، الكويت ليست مسؤولة على ان قائد العراق فضل بقاءه في السلطة على مصير شعبه، لا تضحوا بالكويت من اجل عيون اسوأ من في الحضارة العربية وهو صدام حسين.

حري بجماعة «بن لكن» ان تفهم الدرس التي لم تفهمه في عام 1990، وهذا الدرس يقول ان هناك متغيرات دولية جديدة تفرض حالة عالمية جديدة وسلوكا جديدا، حدث ذلك بعد نهاية الحرب الباردة وظهور قوة عالمية وحيدة. لم يفهم صدام ونظامه تلك المتغيرات الدولية عام 1990، وها نحن وبعد اثني عشر عاما ندخل مرحلة جديدة في النظام العالمي بعد 11 سبتمبر وما يتبعها من متغيرات في النظام الدولي، وحتى هذه اللحظة لم يستوعب صدام حسين الدرس.

ترى ماذا يضير لو تنحى هذا الرجل ورجالاته عن الحكم لانقاذ شعب وبالتبعية انقاذ امة من حالة الانفلات؟ ترى هل تنصح جماعة «بن لكن» صاحبها بالتخلي عن غروره الشخصي وتمسكه بالسلطة لانقاذ ملايين العراقيين والعرب؟ بالطبع لن تنصح هذه الجماعة صدام حسين، هي فقط ستصر على أن الكويت هي سبب مأساة العراق وليس العكس. انها حالة العبث العربي في بداية قرن جديد.