النظام العراقي وثقافة العنف

TT

بالاضافة الى بعض المواصفات البدوية والقبليّة التي تميزه، والتي تبرز خصوصا في المواجهات التي تحدث مع خصومه في الداخل (لنستذكر المجزرة التي اغتيل خلالها حسين كامل وشقيقه عند عودتهما الى بغداد) وايضا في بعض مظاهر الحياة الاجتماعية (مباركة جرائم الشرف على سبيل المثال لا الحصر)، يتسم النظام البعثي، في العراق، بالعديد من خصائص الانظمة الفاشية التي عرفتها بعض البلدان الاوروبية مثل المانيا وايطاليا بين الحربين الكونيتين، من هذه الخصائص تلك «الارادة الشمولية الشرسة» التي حددها موسوليني عند تركيزه لأسس النظام الفاشي قائلا: «كل شيء داخل الدولة، لا شيء خارج الدولة، لا شيء ضد الدولة». ولمزيد من توضيح هذه المقولة، اضاف جيوفاني جانتيلي، الفيلسوف الرسمي للفاشية قائلا: «الليبرالية تضع الدولة في خدمة الفرد، اما الفاشية فتؤكد على ان الدولة هي الواقع الحقيقي للفرد». ويرى جانتيلي ان الفاشية تدافع عن الحرية، لكن فقط عن حرية الدولة وحرية الفرد داخل الدولة. من هنا، فإنه لا شيء خارج الدولة وانه لا شيء انسانيا وروحيا له قيمة معينة يمكن ان يكون خارج الدولة.

وقد عمل النظام البعثي في العراق، منذ استيلائه على الحكم في صيف 1968، على القضاء على كل ما يمكن ان يهدد سلطته الشمولية، مستخدما في ذلك ابشع الوسائل واقبحها واشرسها من سجون وتعذيب وقتل وسحل، بل وفي النهاية اشعل حروبا احرق بها الاخضر واليابس مدمرا بذلك اقتصاد البلاد، محولا الشعب العراقي بجميع مكوناته العرقية والدينية الى شعب «سجين» بالمعنى الحقيقي والواقعي للكلمة.

ومثل الانظمة الشمولية كالنازية والفاشية، استخدم النظام البعثي في العراق ثروات البلاد كلها لتدعيم وتقوية سلطته، ولا هدف له من وراء ذلك غير ترهيب الشعب، وتجريده من اية قدرة على المقاومة او الرفض او التحدي، ومثلما ايضا، اصبح حاضرا بقوة في جميع مجالات الحياة الاجتماعية والسياسية والعسكرية والثقافية للبلاد، وايضا في الحياة الخاصة للافراد والجماعات، هو في رياض الاطفال والجمعيات الخيرية والثقافية والرياضية، بحيث يمكن القول انه ليس بامكان الفرد العراقي ان يجد لنفسه مكانا خارجه. وهذا ما تعكسه توجهات صدام حسين، زعيم هذا النظام، حيث يقول في كتابه «الديمقراطية مصدر قوة للفرد والمجتمع»: «من اجل ان لا ندع الاب والام يسيطران على البيت، لأن بعض الآباء افلتوا من ايدينا لاسباب عديدة، إلا اننا نجد ان الابناء الصغار بأيدينا»، ويضيف صدام حسين قائلا: «ان الطفل والفتى ليس لهما انتماء اجتماعي طبقي وليس لهما اتجاه سياسي محدد ابتداء، لذلك فإن الحزب والدولة هما عائلة الطفل والفتى». اعتمادا على هذا لم يتردد النظام البعثي في العراق في ارسال اطفال في عمر الزهور الى معسكرات التدريب العسكري ليكونوا «ذخيرة العراق الحية على طريق العبور». فإن رفضت عوائلهم ذلك، منعت عنها بطاقات التموين وربما سلطت عليها عقوبات أشد واعنف من ذلك.

وما اتصور ان هناك نظاما عربيا غذى ثقافة العنف، مبتكرا وسائل مرعبة لتطويرها ونشرها على نطاق واسع حتى انها اصبحت الثقافة الرسمية للبلاد، مثلما هو الحال بالنسبة للنظام البعثي في العراق. وفي كتابه «ثقافة العنف العراقي» الصادر حديثا عن «دار الجمل»، يقول الكاتب العراقي سلام عبود، المقيم في السويد: «ان التربية القائمة على العنف كانت وما تزال حجر الاساس في ثقافة البعث، ثقافته العملية الموجهة الى البيت والمدرسة والشارع». واذا ما كان النازيون الالمان قد اتخذوا من ضرورة القضاء على السقوط والانحراف الاخلاقي ذريعة لحرق الكتب ودفع المثقفين الالمان الاحرار الى الرحيل خارج البلاد، فإن النظام البعثي في العراق قد انتهج سياسة التخريب المنهجي للثقافة الوطنية العراقية، رافعا شعار«امة عربية واحدة ذات رسالة خالدة». الآن لم يعد في بلاد الرافدين غير صوت واحد هو صوت «القائد صدام» يردد صداه أدباء وشعراء باعوا الضمير وماء الوجه، وباتوا يكتبون رواياتهم وقصصهم واشعارهم على وقع حروبه ومعاركه الدونكيشوتية في الداخل والخارج. وهذا ما حدث خلال حرب الخليج الاولى وحرب الخليج الثانية، حيث تمكن النظام البعثي في العراق من ان يحشد جيشا من الادباء والشعراء لدعمه، والتغني بانتصاراته الوهمية، وتمجيد البطولات الكاذبة لزعيمه صدام حسين.

وفي كتابه المذكور، اعتمد سلام عبود على العديد من النصوص الادبية والشعرية، لكي يبرز لنا الجرائم البشعة التي ارتكبها النظام البعثي في العراق بهدف القضاء على كل الجوانب الانسانية والروحية في الثقافة الوطنية العراقية، مشيعا الكذب والتزييف والدجل والعهر والتفسخ. وكانت النتيجة في النهاية ان الانسان العراقي فقد حتى «الوهم بأنه حر» كما يقول جورج اورويل في نصه الشهير «الادب والانظمة الشمولية». واعتمادا على العديد من الوثائق الادبية، يبين لنا سلام عبود ان النظام البعثي في العراق لم يحرّم فقط على المثقفين حرية التعبير، وابتكار الافكار المضادة لأفكاره وانما هو اصبح يملي عليهم ما يجب ان يقولوه ويفعلوه ويفرض عليهم المقولات والطروحات والآراء التي يزعم انها «صالحة ومفيدة للوطن»، بل هو اصبح يتحكم حتى في عواطفهم ومشاعرهم وسلوكياتهم، باذلا كل ما في وسعه لعزلهم عن العالم الخارجي وتضييق الخناق عليهم لكي يتحولوا في النهاية الى كائنات خاضعة له خضوعا تاما ونهائيا. والمؤسف ان الامراض التي تعاني منها الثقافة العراقية في الداخل بسبب السموم التي اشاعها النظام البعثي في كيانها تسربت الى الخارج لتنتشر في اوساط المنفيين من الكتاب والشعراء والفنانين العراقيين، مفجرة بينهم معارك وخلافات لن تكون نتيجتها في النهاية غير تشجيع صدام حسين على مواصلة سياسة التدمير والنهب التي ينتهجها بحق بلادهم منذ ازيد من ثلاثين عاما وبألم شديد يقول سلام عبود بأن ثقافة الكره التي نمت في المنافي ليست غير صورة محزنة لخراب شعب. واملا في انقاذ ما يجب انقاذه، هو يخاطب المثقفين العراقيين المنفيين قائلا: «آن الاوان لكي نكون اكثر شجاعة ونقول كفى كذبا. كفى لؤما. آن الاوان لكي نروي بصدق لابناء وطننا اليتامى حقيقة ما جرى، عاريا من كل لبس، ربما نستطيع بذلك تجنيبهم ما وقعنا فيه من شر واذى، ولربما سيمكنهم ذلك في ان يغفروا لنا، فقد خلفنا لهم وطنا من خراب، وطنا اخرج ابناؤه من ازمانهم الشخصية وقذفوا من ظلمات العالم السفلي».

لقد الحقت ثقافة العنف التي انتهجها النظام البعثي بالعراق وشعبه اضرارا جسيمة، واذا ما كان الالمان لا يزالون حتى هذه الساعة، وبعد مرور قرابة الستين عاما على سقوط النظام النازي يحاولون اصلاح ما افسدوه خلال فترة حكمهم التي استمرت اقل من 15 عاما، فإن العراقيين يحتاجون الى زمن مديد، بل ربما الى عدة اجيال لاعادة الحياة الى بلادهم التي لا يكف البعثيون وزعيمهم صدام حسين يوما واحدا منذ استيلائهم على السلطة قبل ازيد من ثلاثين عاما، عن تكبيلها بالاغلال والقيود واذلال شعبها، وتمزيق وصالها، وهدر ثرواتها في حروب خاسرة حمقاء ومحق قيمها وتقاليدها الانسانية العريقة.