على عتبة الغليان

TT

المبادرة التي أطلقها الأمير عبد الله بن عبد العزيز وضعت كافة النقاط على كافة الحروف. ولم يعد أمام شارون أي مهرب. فهو إما ان يتجاوب مع هذه المبادرة، أو أن يكشف كافة أوراقه.

فقد طرح الأمير عبد الله جوابا على مسألة اعتبرتها الإدارات الاميركية المتعاقبة، وادارة بوش بالتحديد قضية جوهرية.

اذ ان كلا من الرئيس بوش ووزير خارجيته كولن باول اعلن عن الرؤية الاميركية للحل السياسي في الشرق الأوسط.

وفسرا معادلة الأرض مقابل السلام، التي طرحها الرئيس الجمهوري رونالد ريغان في عام 1982. على أنها تعني أن تنعم اسرائيل بالأمن والاستقرار المضمونين من كافة الدول العربية مقابل ان تنسحب من الأراضي العربية المحتلة واقامة دولة فلسطينية مستقلة على كافة الأراضي الفلسطينية التي احتلت عام 1967، استنادا لقرار مجلس الأمن رقم 242.

وحدد الأمير عبد الله بوضوح ان انسحاب اسرائيل لخطوط الرابع من حزيران 1967 واقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية، سوف يقابل باعتراف عربي باسرائيل وتطبيع العلاقات معها.

لقد شكا شارون وغيره من رؤساء حكومات اسرائيل المتعاقبة من مشكلة الأمن الاستراتيجي لاسرائيل. وركزوا على بعض الدول العربية التي تناصب اسرائيل العداء. وبرروا عدم الانسحاب لخطوط الرابع من حزيران بتخوفهم الأمني على اسرائيل ومواطني اسرائيل. وتبنى الأميركيون باستمرار الموقف الإسرائيلي وتعهدوا بالحفاظ على تفوق اسرائيل العسكري، ودعموا موقفها الرافض لتطبيق قراري 242 و 338 استنادا لهذا التخوف الأمني، لذلك نقول ان مبادرة الأمير عبد الله بن عبد العزيز وضعت حكومة شارون في زاوية سوف تضطر معها لاتخاذ قرار:

فإما أن تتجاوب أو ان ترفض. وفي الحالتين ستكون الحكومة الائتلافية في اسرائيل غارقة حتى عنقها في مأزق سياسي داخليا وخارجيا.

اذا تجاوب شارون تحت تأثير المساعي الأميركية مع المبادرة فسوف ينفك عقد ائتلافه الحكومي. لأن الأحزاب اليمينية بما فيها حزبه (حزب الليكود) ترفض قطعيا اقامة دولة فلسطينية ذات سيادة. ناهيك عن أن القدس تشكل عقدة العقد بالنسبة لهم جميعا. وداخل صفوف الليكود سيواجه شارون هجوما من منافسه نتنياهو الذي سيثير في اعضاء الليكود كل غرائزهم الاستعمارية والتوسعية لرفض هذه المبادرة. وهذا سيزيد من مأزق شارون ويجعله يميل الى المخادعة. أي ان يعطي من طرف اللسان حلاوة تجاه هذه المبادرة ويبدي استعدادا لبحثها، ولكن في الوقت ذاته سيضطر كما يفعل دائما الى تصعيد العدوان الاسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني لكسب تأييد الأحزاب اليمينية والحفاظ عليها ضمن ائتلافه الحكومي وسيستخدم هذا التكتيك ايضا ارضاء للولايات المتحدة التي ترى في مبادرة الأمير عبد الله تحركا ايجابيا سوف يبحث بشكل اعمق عندما يقوم ديك تشيني، نائب الرئيس الأميركي بزيارة للمنطقة كما سيبحث الرئيس بوش هذه المبادرة مع الرئيس حسني مبارك عند زيارته واشنطن الشهر القادم.

أما رفض المبادرة بشكل واضح من قبل شارون فهو أمر مستبعد لما سيولده هذا الرفض من نتائج سلبية في الغرب وفي الولايات المتحدة. لذلك اعلن شارون في اجتماع مجلس الوزراء الأسبوعي يوم الأحد 24 شباط 2002، انه على استعداد لبحث هذه المبادرة مع السعودية اذا كانت جدية.

لكن هذه المبادرة رغم انها خطوة ترغيب استراتيجية للاسرائيليين كي يجنحوا للسلم، موجهة اساسا للولايات المتحدة الاميركية التي كما قلنا اعلنت ان ضمان امن اسرائيل هو شرطها الاساسي للشروع في تطبيق الحل السياسي حسب رؤيتها، والذي يرى أن لا مناص من اقامة دولة فلسطينية مستقلة على الأراضي الفلسطينية التي احتلتها اسرائيل عام 1967.

ولقد ألقى الأمير عبد الله بن عبد العزيز باقتراحاته، الكرة في الملعب الاميركي، من اجل العمل الجاد لممارسة نفوذ الولايات المتحدة على اسرائيل للانسحاب الى خطوط الرابع من حزيران 1967. ومما لا شك فيه ان هذه المبادرة تستهدف ايضا الى جانب ذلك ان نشرح للعالم وللرأي العام الأميركي ان الدول العربية لا تريد تدمير اسرائيل كما زعم ويستمر في الزعم رؤساء حكومات اسرائيل المتعاقبة وان الدول العربية تسعى لايجاد حل سياسي وان السعودية لم تقف ولن تقف الى جانب الإرهاب. وانه استنادا لذلك فإن على الولايات المتحدة ان تنهي اعمال الارهاب الاسرائيلي المنظم ضد العرب بإنهاء احتلالها للأراضي العربية وانسحابها لخطوط الرابع من حزيران. وان ذلك سوف ينزع فتيل الحرب من ناحية، ويمنع انهيار الاستقرار القائم في منطقة الشرق الأوسط.

فالدول العربية بدون استثناء بدأت تشعر بأن الغليان الشعبي بدأ يصل الى قمته بسبب الجرائم التي ترتكبها قوات الاحتلال الاسرائيلي يوميا ضد الشعب الفلسطيني. والاهم من ذلك بسبب الانحياز الأعمى الذي تمارسه الإدارة الأميركية لإسرائيل في احتلالها واعتداءاتها اليومية على الشعب الفلسطيني وسيصبح من الصعب جدا، لا بل من المستحيل ان تحافظ هذه الدول العربية على علاقاتها مع الولايات المتحدة (على الأقل بنفس مستوى التحالف السابق) ان استمرت الولايات المتحدة في ممارسة هذا الانحياز الأعمى لإسرائيل. وان هي حاولت المحافظة على نفس المستوى من العلاقات مع الولايات المتحدة فهذا لن يمنع الجماهير العربية من القفز من حافة الغليان الى الغليان نفسه.

وهل تستطيع الولايات المتحدة عند ذلك الحد من الكراهية المتنامية لها في هذه المنطقة بسبب اسنادها للعدوان الاسرائيلي، والقمع والتدمير والقتل الجماعي والاغتيال واستمرار الحصار والاحتلال.

الأمير عبد الله أعطى الإدارة الأميركية فرصة ومفتاحاً للحل السياسي. وهذا موقف ان فهمته الادارة الاميركية بمعاينة التعبير، هو في الواقع مفتاح للحفاظ على مصالح اميركا الاستراتيجية في الشرق الأوسط ذو أهمية بعيدة المدى لكل الدول الغربية ولواشنطن بشكل خاص. ولكن اذا استمرت الادارة الأميركية في لعبتها الخطرة المتمثلة في الانحياز الأعمى لاسرائيل واستخدام اسرائيل بعبعاً في وجه الدول العربية (بمن فيها الدول الحليفة جدا مع واشنطن) فإنها تكون بالفعل قد لعبت بالنار وقررت التخلي عن حلفائها في المنطقة (كما سبق لها أن فعلت في أماكن أخرى من العالم خلال القرن الماضي).

لقد وضع الأمير عبد الله واشنطن أمام الخيار. ورمى في وجهها الأوراق الناجحة والنادرة. والتاريخ لا يكرر الفرص.

فما هو ممكن اليوم قد لا يكون ممكنا بعد عام. والفرص التاريخية لصنع السلام تتطلب مواقف شجاعة وجريئة تستند لرؤية سليمة. فهل سيمتلك جورج بوش الشجاعة والجرأة ليتخذ موقفا لاقامة السلام والاستقرار في الشرق الأوسط ويخدم بذلك قضايا الإنسان ومصالح أميركا؟؟

هذا ما هو مطروح الآن على طاولة الرئيس جورج بوش. ولكن من الضروري ان يعلم الرئيس جورج بوش ان تردده في الامساك بهذه الفرصة لن يعني ابدا ان تبقى الأمور في الشرق الأوسط على ما هي عليه الآن من تململ شديد واحتقان متراكم، كلا أن الغليان على بعد سنتمترات معدودات. وعندها ستفقد المنطقة استقرارها. وستعم مظاهر تفجير الكبت المتراكم. وسيعلم عندها بوش حجم الخطأ الذي ارتكبه، والذي يصل الى حد الاشتراك في الجريمة.

فالشعوب العربية ليست شعوبا ذليلة بل لها كرامتها وحسها الوطني والقومي ولا يمكن ان تسمح باستمرار الاذلال والاضطهاد والقمع والتدمير والتهجير الذي تمارسه اسرائيل يوميا على أرض فلسطين. واذا كان بوش غير مثقف تاريخيا كما يجب فاننا نقول له ان الامة العربية أمة واحدة قسم أراضيها الاستعمار القديم الى دول ذات حدود ومفصولة عن بعضها بعض. لكن الاستعمار القديم فشل في فصل قلوب العرب عن بعضها البعض، وفشل في قتل الحس والانتماء القومي، وفشل في تدمير حضارة تمتد جذورها قرونا طويلة في التاريخ. حضارة لا تستند إلا على العدل والحق والاخلاق والشهامة والكرم والمحبة والتسامح والتواصل البشري.