الهند.. من التسامح الديني إلى القتل الجماعي الطائفي

TT

شهدت مدن هندية عديدة خلال الأيام القليلة الاخيرة اعمال عنف واشتباكات طائفية ارتفعت وتصاعدت وتيرتها ودمويتها بعد ان بلغت معركة المعبد ذروتها باعلان الخامس عشر من آذار (مارس) الجاري يوما للشروع في بناء معبد الإله «راما» على انقاض مسجد بابري الذي هدمته ميليشيات الاحزاب الهندوسية عام 1992. وفي غضون السنوات العشر الماضية 1992 ـ 2002 اضطربت اوضاع شبه القارة السياسية وتفجرت اوساط شعوبها بالعنف الديني. تفاقمت القطيعة بين الهند وتعاليم مؤسس دولتها الحديثة في اللاعنف والتسامح الديني، حيث جسدت «الغاندية» الدين في دستور الدولة باعتباره «عقيدة وروحا تسري في اعمال البشر وتسمو بهم على الطبقية والطائفية الضيقة». وبلغت القطيعة ـ الانقلاب على الحداثة والديمقراطية في الهند، ذروتها بوصول «بهارتيا جاناتا بارتي» الى سدة الحكم عام 1996 تحت شعار «كل هندي هندوسي» متشبثا بالماضي «المقدس» عندما ضرب على وتر المشاعر القومية والشعائر الهندوسية وصرختها «نموت من أجل المعبد».

وجاء البعث للماضي وفتنته الطائفية، والتي اهتزت بسببها اركان الدولة الحديثة ودستورها العلماني، عندما خرجت حلقة العنف الديني، مطلع التسعينات، عن مسارها التقليدي للخلافات والنزاعات بين المسلمين والهندوس ودخلت دائرة التطرف والارهاب الدولي تحت ضغوط خارجية وداخلية، ليس اقلها تدهور الاوضاع الاقتصادية تحت وطأة وتكاليف الميزانية العسكرية.

وفي غضون سنواته السبع في الحكم 1996 ـ 2002 راهن «بهارتيا جاناتا» على القوة والآلة العسكرية في مواجهة موجات العنف الطائفي المتصاعدة، وفي كل مرة تكشف العلاقات المتأزمة بين الهندوس والمسلمين عن سوأتها يصارع «بهارتيا جاناتا»، الى القاء مسؤولية الانفجارات والاشتباكات الطائفية على الاستخبارات الباكستانية متهما اياها «بدعم الاصوليين الاسلاميين باسلحة ومعدات واموال كبيرة لفتح جبهة ثانية في الهند بعد كشمير» الامر الذي يبرر ويفسر التهديدات والحشودات العسكرية على الحدود الهندية ـ الباكستانية.

وتستظل الحشود العسكرية وقوات وطاقات الدولتين في ظل مواجهة ومحاربة التطرف الديني والارهاب الدولي. ولقد ذهبت نيودلهي مذهبا بعيدا في مواجهة الاصولية الاسلامية «الخطر الاكبر» في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، ثم جاءت احداث 11 ايلول (سبتمبر) الماضي لتعطي مواجهتها هذه زخما عالميا جديدا، تعاظمت بتعجيله تهديدات وحشودات الهند العسكرية ضد باكستان مطالبة اياها بمطاليب بات ضررها اكثر من نفعها على الدولتين على حد سواء. ان اضطرابات باكستان السياسية والاجتماعية لا تخدم الهند واستقرار وسلام شعوبها المتنوعة في الاعراق والاديان، والعكس بالعكس صحيح. ازداد تبسيط نيودلهي لتحدياتها الداخلية والخارجية، عندما زايدت على مواجهة الاصولية والارهاب الدولي. عندما قال الزعيم الهندي جواهر لال نهرو في كتابه «اكتشاف الهند»: «ينبغي على الهند ان تتخلى عن الكثير من ماضيها وان لا تسمح له بالهيمنة على حاضرها»، كشف عمق الازمة الهندية الراهنة، فمن اجل وصوله للحكم ضاعف «بهارتيا جاناتا بارتي» من وعوده وعهوده القومية الهندوسية وعلى رأسها بناء المعبد ومن اجله ارتفعت حدة وشدة الخلاف بين مجلس الهندوس الأعلى والحزب الحاكم، وهكذا «ينقلب السحر على الساحر» اذ لم يعد «بهارتيا جاناتا» في وضع يحسد عليه، وكانت هزيمته في الانتخابات المحلية في شباط (فبراير) الماضي كبيرة، لا سيما في معقله اتار براديش، اكبر الولايات الهندية، والتي يزيد سكانها على 100 مليون نسمة.

وتعُزى هذه الهزيمة ـ الصدمة الى جملة عوامل: يأتي في مقدمتها تزايد هوة الخلاف بين الحزب الحاكم وجماعتي «ياداف» و«داليتس»، اكبر طبقتين من طبقات المجتمع الهندوسي الاربع، وائتلافهما الحزبي «ساماجوادي» المنافس في الانتخابات الاخيرة.

وهكذا، تضع اعمال العنف والاشتباكات الطائفية الاخيرة حكومة نيودلهي ليس في مواجهة المسلمين الهنود ـ 150 مليون نسمة ـ فحسب بل تضعها وجها لوجه امام الطبقات الهندوسية الفقيرة اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا، ومن هنا يبدأ التحدي الأصعب امام الهند ودولتها الحديثة.

على مدى السنوات العشر الماضية، قصرت محاكم الدولة الهندية ان تحكم في قضية معركة «المسجد ـ المعبد» واكتفت بالتمسك بقرار وزارة الداخلية للعام 1992 بتجميد العمل والبناء في الاماكن الخلافية، وفي هذا مؤشر كبير على سعة وقوة الخلافات والنزاعات الطائفية والطبقية، وبقدر ما هو مؤشر على تراجع «هندو تغا» الايديولوجية الدينية ـ القومية للحكم. واجتهدت نيودلهي في سبر غور هذا التراجع تارة بالذهاب الى موسكو وواشنطن والارتباط بهما بمعاهدات وتحالفات استراتيجية لمواجهة التطرف الديني والارهاب الدولي، وتارة أخرى بالقاء اللائمة على اسلام اباد وجماعاتها الاصولية.

وبعد 55 عاما على انفصالهما واستقلالهما عادت الدولتان ـ الهند وباكستان ـ القهقرى الى قوانين ومعايير الطبقة والطائفة واملتا عليهما حقهما في العنف والاضطهاد للآخر، ولما دعا المهاتما غاندي الى العلمانية وضحى من اجلها كان نضاله من اجل توحيد ولم شمل الهندوس والمسلمين والمسيحيين والديانات الأخرى في اطار المساواة والتعاون والاحترام المتبادل.

وتنكرت «هندوتغا» وشعوبها لهذه التعاليم كما يقول غاندي: «كل هندي يتوق الى تكليل صورتي بالزهور، ولكن ليس فيهم من يعمل بنصيحتي».

وجاء «الجزاء من جنس العمل»، حيث قطفت الهند ثمارا مرة ازهقت ارواحا وحصدت نفوسا غفيرة، فضلا عن هوة الانقسامات والخلافات الطبقية الطائفية الكبيرة. وكانت النتيجة، ان ازداد المجتمع الهندي انقساما على انقسامه، وهو مثال المجتمعات المنقسمة.

ولقد حفل برنامج «بهارتيا جاناتا» الانتخابي لعام 1999 بخطته للتنمية الاقتصادية، حيث وصفها رئيس الوزراء اتال بيهاري فاجبايي بالعلاج الشافي والطريق الى ازدهار واستقرار الهند. وتعثرت خطة فاجبايي، مثلما تعثرت وتراجعت خطط تنموية سابقة، بالعقبات والنفقات العسكرية الكبيرة. وبقدر ما تقوم هذه النفقات مقام قيود وحواجز تعزل الاقتصاد الهندي وتعطل حركته في بناء السوق الحرة الهادفة الى التكامل مع الاقتصاد العالمي، فهي تحول دون نمو وتطور الديمقراطية، وبالتالي تؤجج نار الخلافات والعداوات الطائفية والطبقية المنتشرة في الهند.

* كاتب عراقي