هل تؤشر عودة «زيني» لبداية النهاية؟

TT

عندما هممت بتحرير هذا المقال كان الإعلام العالمي نشر طيلة الأسبوع المنصرم أنباء حافلة بالدلالات عن الوضع الذي انتهت إليه الحرب الإسرائيلية المعلنة على فلسطين اقتصر على ذكر بعضها فيما يلي باختصار شديد وبدون ترتيب:

* إعلان البيت الأبيض عن عودة «زيني» هذا الأسبوع إلى إسرائيل وفلسطين، على أن تزامنها زيارة نائب الرئيس الأمريكي «تشيني» إلى المنطقة للاتصال بـ 11 دولة شرق أوسطية.

* بلغ عدد قتلى الحرب خلال الأسبوع المنصرم 140 منهم مائة شهيد فلسطيني، وأربعون قتلى إسرائيليون. وبلغ عدد شهداء فلسطين خلال يوم الجمعة الماضي وحده 50.

* قال مراسلو الإعلام العالمي: إن الشارع الإسرائيلي يسوده هذه الأيام الهلع الكبير والإشفاق على المصير، بينما الشارع الفلسطيني يسوده الصمود والاستهانة بالموت والدمار.

* إن استطلاعات الرأي الأخيرة في إسرائيل أظهرت انخفاض شعبية «شارون» ونزولها لأول مرة إلى أقل من خمسين بالمائة. واستطلاعات الرأي أظهرت من جهة ثانية أن أزيد من %50 من شعب إسرائيل يؤيد المبادرة السعودية للسلام، ويطالب «شارون» بالانسحاب والعودة إلى حدود ما قبل يونيه (حزيران) 1967.

* أعلن «شارون» أنه أبلغ وزير الخارجية الأمريكية في مكالمة هاتفية أنه لم يعد يطالب باشتراط مرور سبعة أيام كاملة على وقف إطلاق النار من جانب فلسطين للعودة إلى المفاوضات، وأنه أصبح مستعداً لمفاوضة الفلسطينيين بدون قيد أو شرط، وحتى في غضون إطلاق النار المتبادل. وهذا بينما جاءت الأخبار من الولايات المتحدة تقول إن «كولين باور» هو الذي أصدر التعليمات «لشارون» لسحب شرطه، كما أُعلِن أن الوزير الأمريكي أبلغ الرئيس عرفات هاتفياً أن «شارون» تخلى عن شرطه.

* أُعلِن من إسرائىل أن «شارون» جدد الإذن لوزيره «بيريز» بأن يفتح الحوار مع رئيس المجلس التشريعي الفلسطيني أبو العلاء قريعات لمتابعة إعداد خطة مشتركة للسلام.

* تضافرت الأخبار من مختلف أرجاء العالم على أن المعارك التي دارت الأسبوع الماضي بين قوات الاحتلال الإسرائيلي من مصفحات ومروحيات فتاكة وبين قوات حرب التحرير الفلسطينية تميزت بتصعيد إسرائيل حدة الحرب إلى درجة أن القتلى من الفلسطينيين بلغت نسبة لم يتقدم لها نظير، وأن التخريب والتدمير كانا شاملين، وأن إسرائيل أشهرت الحرب حتى على أعوان الإسعاف الطبي، واستولت على بعض سيارات الإسعاف الدولي. وقال بعض المعلقين: ان بعض المناظر التي التقطتها عدسات التصوير من ساحات المعارك جاءت تشبه الصور الفظيعة التي أُخِذت لمجزرة صبرا وشاتيلا المخزية التي وقعت سنة 1982.

* بلغ عدد الشهداء الفلسطينيين طيلة 17 شهرا من الانتفاضة 1100 وعدد الإسرائيليين 336.

* أعلن شارون أنه سيرفع الحصار عن عرفات لأنه استوفى جميع ما طُلب منه.

أكتفي بهذه اللقطات الإعلامية التي اطّلع العالم عليها لأتساءل ماذا يستخلصه منها التحليل السياسي؟، وماذا تعني في اللغة الجيوستراتيجية؟، وأبادر إلى الجواب بعبارة مختصرة جامعة: إن هذه الأنباء تؤشر لدخول الصراع بداية النهاية، لأن أزمته اشتدت و«اشتدّي أزمة تنفرجي»، ولأنه تجاوز حدّه، وكما يقال: «الشيء إذا جاوز حدّه جانس ضدّه».

لقد أخرج «شارون» جميع ما كان في جعبته من سهام صوبها طيلة عهد حكمه إلى صدر شعب فلسطين، وأصبح خاوي الوفاض. والعمليات التي بلغت أشدها في الأسبوع المنصرم، عمليات يائسة أصابته لا محالة بالإحباط وعرّته مكشوفاً أمام ناخبيه بادي الفشل عاجزا عن تحقيق الأمن الذي وعد به شعبه وراهن على تحقيقه. وكانت النتيجة ما يراه العالم ويسمعه، ويضيق به شعبه ويألم له ويدفعه إلى الجهر بالمطالبة بإنقاذه من المصير الذي قذفت به إليه سياسة قائده الهوجاء التي طبقها «شارون» ومضى فيها أزيد من سنة مكباً على وجهه أعمى يتخبط غير حاسب للأضرار التي يُلحقها بشعبه إلى أن انتهى ضارباً وجهه عرض الحائط.

وأكاد أجزم أنه في تردده على البيت الأبيض كان يلتمس كل مرة من الرئيس الأمريكي أن يمهله أجلاً آخر وتبتعد الولايات المتحدة عن ممارسة دورها في رعاية السلام، لأنه (أي شارون) على وشك حل المشكل الفلسطيني بالقوة العسكرية. وما على الرئيس الأمريكي إلا أن يمارس ضغطه على عرفات ليأتي راكعاً ذليلاً، مؤكداً له أن القضية قضية أيام. وقد سايره البيت الأبيض والتزم الصمت واكتفى بالضغط على عرفات إلى أن انتهى «شارون» إلى الغرق واضطر إلى الاستنجاد بالرئيس الذي اعتبر أن «شارون» قد أنضجه اليأس والإحباط للعودة إلى الحوار وحسن التفاهم بواسطة التفاوض. وفي هذا السياق تأتي عودة الجنرال «زيني» الذي سيجد أمامه هذه المرة «شارون» آخر مفتوح العين والأذن، بعد أن جرب سلوك طريق الاستعلاء الذي قاده إلى مغامرة كانت على حساب أمن شعبه الموعود. وكل شيء يؤكد أن الجنرال «زيني» سينجح هذه المرة فيما فشل فيه في زيارته السابقة، لأن الشعب الإسرائيلي ينتظر من هذه المفاوضات أن تكون حاسمة لصالح أمنه، ولتحقيق السلام والتصالح بينه وبين شعب فلسطين، ويرفض أن يضيع أمنه وسلامته بفعل متابعة سياسة عنف وشن حرب لن تخرج منها حكومته منتصرة على العدل والحق والشرعية الدولية.

وربما سيحاول «شارون» أن يغطي على فشله بمحاولة عقيمة أخرى، وهي أن تنحصر المفاوضات في طورها الأول في العمل على إيقاف النار من الجانبين، وأن يطلب إلى المبعوث الأمريكي مرة أخرى أن يعطيه أجلاً ويمهله للدخول في مفاوضات الحل النهائي.

وآمل أن لا يقبل البيت الأبيض الانصياع إلى لعبة تمديد الآجال والالتفاف على صلب المشكل، بعد ان تبين أن الآجال المعطاة فيما سبق إنما أفرزت وضعاً أكثر سوءاً وتعقيداً. ولا يكفي اتخاذ تدابير جزئية هامشية كرفع الحصار الجائر على الرئيس عرفات والسماح له بحرية الحركة في فلسطين، وحتى خارجها لحضور قمة بيروت، فهذا إنما هو مشكل عارض. أما الحقيقي فهو رفع الاحتلال وعودة المعتدي إلى حدود ما قبل يونيه 1967، والاعتراف الإسرائيلي بالدولة الفلسطينية في حدودها التي أقرها مجلس الأمن، وتطبيق مقررات الشرعية الدولية التي داستها إسرائيل بقدمها طيلة ما يقرب من أربعين سنة.

إن تطبيق المقررات الشرعية على أساس الاقتراحات السعودية التي ستطرح على القمة العربية هو وحده الذي سيحقق سلاماً عادلاً متوازناً للصراع العربي الإسرائيلي، وهو وحده الذي سيتمكن به «شارون» من تحقيق الأمن الذي وعد به شعبه وعجز عن تحقيقه لخطئه في اختيار مقاربة التوصل إليه. ولم يعد له بعد فشل مقاربته المستهلكة إلا إتيان البيوت من أبوابها لا من ظهورها، والمبادرة السعودية كفيلة بذلك.

إني أفهم أن البيت الأبيض بترحيبه بالمبادرة السعودية قد أدرك أن المقاربة السعودية التي ستصبح عربية هي أخصر الطرق وأسلمها للوصول إلى تحقيق السلام العادل وما يترتب عليه من آثار، مقابل رفع الاحتلال عن الأرض واستعمار التراب، واستعباد الإنسان.

وبمقتضى ذلك كله ينبغي أن تكون المفاوضات سريعة لتحقيق هدفها المعروف الواضح الذي لا يحتاج إلى نقاشات بيزنطية عقيمة الجدوى، فالحلال بيِّن والحرام بيِّن. والزيغ عن سلوك طريق العقل والحكمة ووضع الأشواك والعراقيل على طريق المفاوضات محكوم عليه سلفاً بالفشل، وأفعال العقلاء تُصان عن العبث.

إني مؤمن بأن المفاوض الإسرائيلي سيستفيد من مسؤوليته عن تعثير المفاوضات منذ أوسلو وسيستخلص منها النتائج المحتومة، وأن الصراع لا يمكن أن يطول أكثر مما طال، وأنه محكوم عليه بالخروج من النفق، وأن ساعة الحقيقة قد دقت، وأننا في بداية نهاية للصراع لا رجعة فيها.