«فرصة أخيرة».. ولكن لمن؟

TT

عندما انتهى مجلس وزراء الخارجية العرب الذي عقد في القاهرة في الاسبوع الأول من هذا الشهر، لم يتوقف الكثيرون أمام ما قيل عن انه حدد ستة مواضيع ستكون محور جدول الأعمال للقمة العربية، التي ستعقد في بيروت ابتداء من يوم الأربعاء المقبل.

ربما لأن التطورات أمنيا وسياسيا وديبلوماسيا، كانت قد رسمت سلفا، الخط الذي سيقوم عليه جدول الاعمال المذكور:

على الصعيد الأمني كان ارييل شارون قد تجاوز كل الحدود المعقولة في المذبحة المفتوحة، التي ينفذها ضد الشعب الفلسطيني، والتي لم يتردد كوفي انان قبل ايام في وصفها بأنها «حرب كاملة» ينفذها الاسرائيليون ضد الفلسطينيين.

وعلى الصعيد السياسي كانت مبادرة ولي العهد السعودي الامير عبد الله قد أحدثت دويا واستقطابا على المستويين العربي والدولي، مما ادى الى انعطاف كبير، وفتح أبواباً أمام اعادة تحريك عملية السلام المجمدة، كما أعطى الدول العربية منطلقا جديدا ليس لمقاربة بارعة في الخطاب العربي الموجه الى العالم حيال القضية الفلسطينية فحسب، بل للانطلاق في ترسيخ وتعميق وتوسيع رقعة التضامن حول مشروع واضح وبسيط وصريح، يسقط كل المقولات بان العرب لا يملكون «استراتيجيا للسلام» عبر مشروع يستلهم تطبيق قرارات الشرعية الدولية في اطار المعادلة التي قام عليها «مؤتمر مدريد» اي الارض مقابل السلام، ولو جاءت الصياغة بعبارات اكثر تأثيرا كما قال الرئيس حسني مبارك.

وعلى الصعيد الديبلوماسي، كانت الادارة الاميركية قد قررت على ما يبدو، الخروج من دائرة التغاضي عن جرائم شارون واشاحة النظر عن اجتياحه لاراضي السلطة الفلسطينية، والعودة الى التدخل نسبيا في مساعي وقف النار. وهكذا بموازاة رحلة نائب الرئيس ديك تشيني الى 11 دولة في المنطقة بينها 9 دول عربية، وهي رحلة كانت مقررة منذ نهاية كانون الثاني (يناير) الماضي، اعلن الرئيس جورج بوش عن اعادة المبعوث الاميركي انطوني زيني الى فلسطين المحتلة ليحاول وقف النار وتطبيق «ورقة تينيت» و«تقرير ميتشيل» كمدخل لاعادة الطرفين الى طاولة المفاوضات.

على خلفية هذه العناصر الثلاثة بدا واضحا تماما، ان القمة العربية المقررة في بيروت لن تكون قمة دورية عادية، تأتي على خلفية اللياقة العالية التي جعلت دولة الامارات كما هو معروف تعطي لبنان افضلية استضافتها كبلد حقق انتصارا على اسرائيل، بل انها تتجه لتكون قمة استثنائية بكل المقاييس.

واذا كانت الخلافات والشكوك قد احاطت حتى بإمكان انعقادها، من منطلق الموقف الليبي المستنكر «كلاما شيعيا» قيل في بيروت وتحديدا في موضوع اختفاء الامام موسى الصدر، فان المعالجات سرعان ما نجحت في تجاوز هذه الاشكالات، ومع الانعكاسات الطبيعية للتطورات الامنية والسياسية والديبلوماسية المشار اليها اعلاه، على الاحتمالات المتصلة بالقرار العربي عموما، بدأت القمة تأخذ الصفة الاستثنائية كونها تشكل محطة على مفترقات واستحقاقات من الضروري ان يكون للقادة العرب مواقف واضحة وحاسمة منها.

ولا ندري في الواقع اذا كان من الملائم ان تستعمل الديبلوماسيات العربية «كلاما كبيرا» وسط الظروف الراهنة، ولكن هذا «الكلام الكبير» نفخ في خواصر القمة اذا صح التعبير لتزداد أهمية، أو بالأحرى لتزداد المراهنات على أهميتها.

كيف؟

في نهاية اجتماع مجلس وزراء الخارجية العرب الذي عقد في القاهرة كما قلنا، وقف وزير الدولة الكويتي للشؤون الخارجية الشيخ محمد سالم الصباح والى جانبه امين عام الجامعة العربية عمرو موسى، وقال للصحافيين: «اعتقد ان مؤتمر القمة في بيروت هو الفرصة الاخيرة التي تطرح امام ارييل شارون والقيادة الاسرائيلية (...) انكم الآن على مفترق الطريق فإما السلام وإما الدمار، واعتقد ان على العرب ان يعطوا هذه الفرصة الاخيرة للقيادة الاسرائيلية».

طبعاً لم يكن الشيخ محمد يلوح او يهدد بتدمير اسرائيل، إذا رفضت فرصة السلام الأخيرة التي ستعرضها القمة، بل كان يحاول ان يضع اسرائيل امام خيار من اثنين: إما التقدم لتحقيق السلام العادل الذي يريده العرب رغم كل ما جرى ويجري في ارض فلسطين، وإما الاستمرار في سياسة التدمير التي قد تشعل المنطقة كلها.

اليوم وعشية انعقاد القمة، وتحديدا قبل يومين من انعقادها، تفرض الموضوعية والواقعية، بعد تأمل دقيق في التطورات الأمنية والسياسية والديبلوماسية المتصلة بالقضية الفلسطينية، ان يملك المرء جسارة كافية لطرح سؤال استطرادي:

حسناً إنها قمة الفرصة الأخيرة، لكن لمن؟ لاسرائيل أم للعرب أم لأميركا؟

طبعا لا حاجة الى استعجال الاجوبة، ولا داعي ايضا الى استثارة العواطف، فليس المطلوب في النهاية ان تتحول القمة لسوق عكاظ للقصائد القومية الملتهبة وللعنتريات التي تملأ فضاء المنطقة ورؤوسها، ثم يخفت الدف ويتفرق العشاق كما يقول المثل، بل المطلوب ان نتعامل مع القمة من منطلق الاعتبارات العملية، التي تجعل منها فرصة أخيرة للعرب كما لاسرائيل ايضا وكما للاميركيين استطراداً.

ولا نقول هذا الكلام من منطلق الرغبة السلبية في سكب المياه الباردة جداً على رأس القمة وقبل ان تنعقد حتى، بل من منطلق الحرص على ان تشكل وحدة الكلمة والصف اولا ثم القرارات ثانيا صيغة قومية تحمل في ذاتها عناصر «الفرصة الاخيرة» امام الاسرائيليين. وقطعا، ما لم ترتق اعمال القمة وقراراتها الى هذا المستوى فإن معايير «الفرصة الأخيرة» تكون قد أعلنت عن نفسها بنفسها من خلال نتائج هذه القمة.

لماذا كل هذا الكلام؟

لأسباب بسيطة جدا تتعلق بالتطورات الامنية والسياسية والديبلوماسية اياها، في الاسابيع القليلة الماضية:

على الصعيد الامني، سمع ديك تشيني في كل محطات جولته في الدول العربية، وحتى في المملكة العربية السعودية والكويت كلاماً واضحاً وحاسماً لجهة رفض اي عمل عسكري قد تقوم به اميركا ضد العراق، ولجهة الحرص على رفض كل المعادلات المستهجنة التي وضعتها اسرائيل في التداول الاعلامي عبر طرح الشعار الذي يقول: «رأس شارون في مقابل رأس صدام».

كذلك كان الموقف حاسماً وصلباً لجهة التأكيد على ضرورة لي ذراع شارون ووضع حد لجرائمه وسياساته، اذا كانت اميركا حريصة على عدم انهيار العملية السلمية نهائيا واستطرادا اذا كانت حريصة على مصالحها في هذه المنطقة.

واذا دققنا في المساعي التي كان انطوني زيني عاكفاً عليها عشية سفر تشيني من المنطقة، فإننا نتلمس بداية محاولات اميركية جادة لوضع شارون عند حدوده بعدما اعطيت له ويا للسخرية فرصة «للحسم الأمني» ففشل بعدما مضى بعيداً في المذبحة ضد الفلسطينيين. لكن السؤال الجوهري الذي يمكن طرحه في هذا السياق الأمني عشية القمة هو: هل المطلوب اتخاذ موقف في القمة يهمش المساعي الاميركية ويسخفها سلفاً، ام المطلوب وضع الاميركيين امام مسؤولياتهم عبر موقف عربي صلب وواضح يمثل فعلا «فرصة أخيرة» نعطيها للتسوية، مع التأكيد على ان هذا لا يعني على الاطلاق انهاء الانتفاضة بل اعطاء نفسٍ لها.

اما على الصعيد السياسي فقد كانت رسالة وزير الخارجية الفرنسي هوبير فيدرين الى زملائه العرب واضحة وجلية عندما قالت: ان قمة بيروت تشكل فرصة بالتأكيد يجب انتهازها (...) وان موقفا عربيا مشتركا مؤيدا لأفكار الأمير عبد الله ومبادرته من دون اضعاف معانيها سيشكل مساهمة مفيدة ومهمة فعلا في الجهود المبذولة من اجل احياء الأمل في السلام..

وعلى خلفية هذا الكلام وفي ظل ما قيل عن اقتراحات وافكار واشتراطات للتوصل الى صيغة مشتركة للمبادرة السعودية سيقرها وزراء الخارجية يوم الثلثاء المقبل ويدفعونها الى القمة لترفعها اذا اقرتها الى الأمم المتحدة.

على خلفية كل هذا، لم يكن الاساس في نظر الرئيس حسني مبارك مثلا ان يتركز النقاش على التعابير: «سلام كامل شامل مقابل الانسحاب الكامل» ام «تطبيع كامل مقابل الانسحاب الكامل»، باعتبار ان «السلام الكامل» في مندرجاته يؤدي الى التطبيع وان الانسحاب الكامل يقوم على المنهجيات التي حددتها الشرعية الدولية في قراراتها.

لكن هذا يلغي بالتالي الاهمية الحاسمة للمبادرة السعودية التي اعادت تظهير الموقف العربي في العالم عبر القول ان العرب يملكون «استراتيجيا للسلام» تنبثق من جوهر الشرعية الدولية وقراراتها.

اما على الصعيد الديبلوماسي، فلا ندري من اين ستنتقي القمة كلماتها لمخاطبة العالم، اذا كان القرار 1397 الذي نص صراحة ولأول مرة على «الدولة الفلسطينية» وثبت هذه الدولة قانونيا في نصوص الشرعية الدولية ممثلة بالامم المتحدة، قد تعرض على ألسنة كثيرة للانتقاد وحتى للتشهير، مع انه نص في مقدمته على القرارين 242، 338! ولا ندري اي خطاب للقمة واي «فرصة اخيرة» وبعض الدول العربية يقعد عن الحرب ويقرع طبولها وينشد السلام ويفخخ طرقاته!