وجه السلام الآخر

TT

الانسان هو الوجه الآخر للسلام. تدور دوائر السلطة وتدول الدول وتبقى كرامة الانسان. انه السلاح الافعل الذي امتشقه نيلسون مانديلا رغم ربع قرن في سجون افريقيا العنصرية، ورفعه المهاتما غاندي في وجه اكبر امبراطوريات العصر. ويزداد التأييد للشعب الفلسطيني، كما اعلن للعالم موقعه المدافع عن كرامة الانسان وشرف الحياة. هذا الترابط بين السلام الدولي ورعاية الانسان هو اول الاهداف المعلنة لميثاق الامم المتحدة «لكي تتجنب الاجيال المقبلة ويلات الحروب».

القرار الاخير لمجلس الامن الذي يلحظ انشاء دولة فلسطينية لا يعكس فقط مهارة مهنية للسفير الاميركي الجديد، او غلبة سياسية لوزير الخارجية، او موقفا محددا للادارة الاميركية بعد طول غياب. انما هو يعرب كذلك عن شعور دول العالم باستحقاق الشعب الفلسطيني الصامد على شراسة الاحتلال.

القرار متقدم اميركيا ومتأخر عربيا. ناجح سياسيا وغامض عمليا. الاشارة المناسبة الى 242 مفتوحة على التفسيرات ومتروكة للتفاوض. ذلك من طبيعة التعامل الدولي لولا ان الاحداث ـ ومنها طريقة اتخاذ القرار الجديد ـ اثبتت ان قدرة بعض الاطراف العربية على ادارته ـ ومنها اطراف فلسطينية ـ تحتاج الى عناية فائقة. ومع ان المناسبة المباشرة لاجتماع مجلس الامن منعت اقتحام المخيمات الذي هو مسؤولية دولية، الا انه لوحظ غياب الاشارة الى القرار 194 الذي انشأ وكالة الامم المتحدة لاغاثة الفلسطينيين. والمؤسف ان معظم نشطاء الاعلام المتوثبين دوما لتوزيع ونشر الصور، كادوا على الصحافة العربية كادوا يتجاهلون ضحايا اطلاق النار على سيارة الاسعاف الدولية. المرجع الوحيد الذي اثار قضية مقتل الممرض كمال حمدان هو مدير الوكالة الدنماركي بيتر هانسن والامين العام كوفي انان.

القرارات الدولية متوفرة، من رقم 181 سنة 1947 الى رقم 1397 سنة 2002، مرورا بأكثر من مائة قرار يؤكد حق الفلسطينيين «غير القابل للتصرف» في تقرير مصيرهم الوطني فينضمون الى 190 دولة أخرى اكثرها يلعب دورا ناشطا في صنع الاحداث وبعضها جزر تكاد تغمرها المياه او تعيش على صواري السفن وطوابع البريد.

القرار مفاجأة متقدمة بعد طول تراجع، يبقى التنفيذ، وهو مهمة عربية فلسطينية بقدر ما هو مسؤولية دولية او اميركية او حتى اسرائيلية. وهذا يقتضي وضوح الثوابت والمتابعة الحاسمة والرؤية الخلاقة، وذلك لا يتم الا بالقيادة الشجاعة والحكيمة معا والموقف العربي الواحد الموحد في السر كما في العلن، ولا بد من اهتمام افضل بمستوى التعامل الجدي مع الامم المتحدة. فإن «الاجيال المقبلة» لن ترضى بالانتظار نصف قرن آخر.

* من سيدفع؟

* بعد قمة الألفية في الامم المتحدة شدد بيان الختام على «اهمية زيادة المساعدات الاساسية» للدول الفقيرة. وبقيت تلك النوايا المعلنة في نطاق الحوار الدائم بين مديري وكالات التنمية ووزارات المالية للدول الاعضاء، بل زادت الاحتياجات بينما تراجعت التبرعات.

زعماء الدول يقرأون الصحف لا الوثائق. وقد اكتشفوا من خلال البراكين الامنية لا استثمار بلا استقرار ولا استقرار بدون الثروة البشرية في كل مكان. وهكذا اعلن وزير مالية بريطانيا غوردون براون «ان ما يحدث لأفقر مواطن في العالم يؤثر مباشرة على اغنى مواطن في اغنى بلد». وتبرع رئيس الولايات المتحدة بخمسة بلايين دولار خلال ثلاث سنوات لانشاء «بركة مالية مفتوحة» للدول النامية، وتبرعت اوروبا بسبعة بلايين. واطلق مدير عام البنك الدولي حملة لمكافحة الفقر والجهل والمرض، وتوجهوا كلهم الى مدينة «سونتراي» في المكسيك ليشاركوا اكثر من خمسين رئيس دولة يرافقهم رجال المال والاعمال في المؤتمر الدولي الهادف الى تمويل التنمية.

النتائج تلوح احيانا في المقدمات خلال اعداد مشروع القرار الرسمي للمؤتمر في الاجتماعات التمهيدية بنيويورك. وضعت الامانة العامة نصا يلزم الدول الغنية بأن تضاعف مساعداتها الخارجية. فالامين العام كان يأمل بأن يضاعف بذلك ميزانية التنمية الى خمسين بليون دولار. وحتى ذلك لا يكفي في رأي الخبراء. فالمطلوب مائة بليون على الاقل. ومع ذلك فقد رفضت بعض الدول الصناعية ذلك النص وعملت على استبداله بالدعوة الى «بذل الجهود الملموسة لتقديم معونات اكثر».

ومع ذلك تتلاحق الاجتماعات التي تحدد الارقام المطلوبة وترتفع الوعود. مثلا مطلوب 180 بليون دولار لتأمين المياه لكل انسان حسب اعلان المؤتمر الخاص الذي عقد اخيرا في بون بألمانيا، وعشرة بلايين لاعادة تعمير افغانستان خلال خمس سنوات، كما اشار مؤتمر آخر في بون اياها، وعشرة بلايين لمكافحة مرض ضعف المناعة، كما حدده امين عام الامم المتحدة، وعشرة بلايين لمساندة عملية التنمية في مصر بموجب مؤتمر دولي عقد هناك، و 25 بليونا لدعم افريقيا، كما اعلنت الامم المتحدة قبل سنوات، و25 بليونا للمشاكل الصحية اعلنت عنها مديرة برنامج الصحة العالمية، رئيسة وزراء النرويج السابقة، غرو برنتلاند. ثم هناك مائة بليون مطلوبة من اجل «التنمية المستديمة». هذا عدا المساعدات الفورية المطلوبة لاغاثة المشردين من ضحايا النزاعات المسلحة.

من اين ستأتي هذه الاموال؟ من القادر على الدفع؟ وهل يدفع؟ من الذي يحسب، ومن يحاسب؟

كلام الحرب.. وطعام السلام اشادت الصحف بالدعوة التي وجهها رئيس جمهورية قبرص الزعيم اليوناني غلافكو كلاريدس الى الزعيم التركي رؤوف دنكطاش لتناول العشاء ردا على دعوة سابقة قبل اسابيع. قبل حوالي خمس سنوات كنت قد قدمت السيد كلاريدس في مؤتمر صحافي في مقر الامم المتحدة بنيويورك ثم انصرفت الى عملي. كانت ازمة قبرص السياسية يومها، مثل اليوم، تدور حول اهمية اللقاء بين الزعيمين اليوناني والتركي لايجاد مخرج يرضي اهل الجزيرة الواحدة ويريح المجتمع الدولي. عند خروجي في وقت متأخر من المساء مشى معي زميل يعالج موضوع قبرص وأخذ يشرح لي الصعوبات التي تعترض اللقاء والوسائل المختلفة التي يمكن اتباعها لتأمين اجتماع ثنائي لا تتشابك خلاله الايدي او يرتفع الصراخ المتبادل. تركت الزميل عند الجادة الاولى (فيرست آفنيو) وتقاطع الشارع الرابع والاربعين واتجهت الى المطعم الصيني هناك لكي احمل الى منزلي القريب بعض لوازم العشاء. عندما جلست في الانتظار تبينت ان السيد كلاريدس والسيد دنكطاش يتناولان العشاء هناك بشهية هانئة، وتذكرت قول الرئىس كلاريدس وأنا الاقيه في الصباح: «يبدو اننا نحب نفس المآكل الشرقية».

بالمناسبة، الوسيط الدولي الحالي حول قبرص، الفارو دي سوتو، الذي انضم الى الامم المتحدة كمساعد خاص لمواطنه البيروفي للامين العام خافيير بيريز ديكويار، من ألمع واهدأ المسؤولين. وكان قد نجح في تأمين الانتقال السلمي بعد حروب نيكاراغوا والسلفادور في آخر ايام ولاية ذاك الامين العام فأعلن الاتفاق قبيل دقات رأس السنة الجديدة. واثناء احتدام المناقشات بين الاطراف المتحاربة اتصل بي صباح يوم احد ليسأل اذا كان هناك مجال لعشاء من الطعام العربي. فهمت بعد ذلك ان احد القادة الاساسيين في قضية السلفادور هو من عائلة حنظل الفلسطينية الاصل. واذا كان لا بد من استراحة المحارب فلتكن على الاقل حول مائدة عربية الطابع والمذاق.

واذا كانت «الحرب أولها كلام» فإن السلم أوله طعام.. مناسب.

* الأمين العام المساعد للامم المتحدة (93 ـ 1998)