«المثقف التاكسي»

TT

وابتعادا عن التقعر والكتابة الخشب، اطرح امامكم مفهوم «المثقف التاكس»، وهي ظاهرة عربية يمكن فهمها من خلال قراءة لواقعنا دونما الدخول على ارسطو وافلاطون او حتى الخوارزمي، والهدف من الكتابة عن الحياة اليومية هو حالة من الربط بين النظري والمعاش. وأرى ان المشكلة الخاصة بـ«المثقف التاكسي» هي عدم القدرة على الربط بين ما درسه المثقف من نظريات وواقعه اليومي، فالمار في عواصم العالم العربي من المغرب حتى دمشق يرى اناسا واجسادا تمشي كما النائم في العالم العربي ورؤوسها وافكارها في اماكن اخرى، حيث يقول احدهم انني اسكن في واشنطن ولكنني اعيش في مصر، ويسكن الكثيرون في الدار البيضاء ورؤوسهم في باريس، حالة الانفصام هذه بين الجسد والرأس هي نتيجة لعدم القدرة على المواءمة بين افكار الكتب والمرجعية والواقع المعاش للافراد في العالم العربي، هذه الحالة هي التي انتجت ما اسميه بـ«المثقف التاكسي».

1 ـ نوع التاكسي ونوع الثقافة لا يختلف المثقف كثيرا عن التاكسي فهناك التاكسي ماركة شيفروليه، والهوندا، اي المستورد الذي يقابله في حالة المثقف هؤلاء الذين درسوا في الجامعات الاوربية والامريكية، او حتى التاكسي ماركة يوجو التي كانت تنتجها يوغوسلافيا ويقابلها من المثقفين من درسوا في الدول الاشتراكية آنذاك، هناك ايضا المثقف المحلي الذي كما التاكسي المحلي يكون محركه يابانيا وصاحبه مصنوعا عند حداد محلي، ترى فيه نفير هوندا وعجلة قيادة فيات تجميعاً كلياً لامور شتى. كما بعض المثقفين الذين يقرأون كتابا من هنا واخر من هناك، وللتاكسي المحلي صفات محددة، فهو في الغالب موديل قديم متأخر عن زمانه بعشرات السنين وكذلك يكون حال كثير ممن يقدمون انفسهم على انهم مثقفون، تجد في داخل هذا التاكسي اشياء كثيرة، شريطاً للشيخ كشك، وعلماً لامريكا، ومصحفاً على التابلوه وعندما تسأل صاحبه لماذا كل هذا يقول لك «الزبون عايز كده»، وداخل هذا التاكسي كما داخل عديد من المثقفين تشتم رائحة غير طيبة ذلك لان الداخل لا ينظف، راكدة اشياؤه رغم ضجيج اشرطة الكاسيت وكل الملصقات على جانبيه، يذكرني كل ذلك بكثير من انصاف مثقفين قابلتهم، لا يهمهم اكثر من حكاية «الزبون عاوز كده»، خليط من الفكر القومي والديني والشيوعي والليبرالي في ذات العربة وذات الرأس.

والتاكسي انواع ولكل مجال وميدان عمل، فهناك التاكسي الذي تراه في المطارات، والذي ينقلك من المطار الى الفندق ويقابله في حالة المثقف ذلك المتخصص في الامور المستوردة مثل الحداثة والعولمة، وكل الافكار المنقولة، المثقف من المطار الى البيت او الى الفندق غالبا ما يدخلك في حكايات غريبة وغرائبية، ولكن يبقى الموضوع في النهاية هو هو، محاولة للتفاوض على اعلى اجر وكذلك على البقشيش، بعض هذه الانواع من التاكسيات /المثقفين مرتبط بشركة او بحزب مرهون حديثه بهذه الشركة او هذا التيار الفكري، بالاضافة الى قصة جانبية يدمى لها القلب بهدف الحصول على البقشيش ايضا.

هناك ايضا التاكسي /المثقف الاقليمي الذي ينقلك ما بين مدينة واخرى من الجيزة الى البدرشين او اسيوط، ما بين الماركسية والاسلاموية، ما بين الليبرالية والسلطوية، كله باجر ولكنه اجر محدد وفي الغالب تجد نفسك ضمن جملة من المستخدمين او من الركاب. والمستخدمون في حالة التاكسي كما في حالة المثقف: موظف الحكومة، والنصاب والشخص العادي، ولكل مطالبه.

2 ـ كيف يسيرون على الطريق اول ما يلفت نظرك في وجه التشابه بين المثقف والتاكسي هو عندما تشير اليه بالوقوف وتكتشف ان بداخله راكباً آخر، فيشترط عليك توصيل هذا الاخر اولا ثم يأخذك الى مشوارك في ما بعد «اي ان يركب زبوناً على زبون اخر» ومشروعاً فكرياً على مشروع فكري آخر، وفي كل ذلك يستمر السائق في حكايته التي دخلت انت في منتصفها والتي يتخللها اما شريط للشيخ كشك او اغنية لديانا حداد (اذا كان السائق ذواقا) او تلاوة بصوت الشيخ محمد رفعت. وانت وحظك.

وقد يقطع التاكسي /المثقف الطريق في اطول وقت فتجده يدور بك في حوار لا داعي للدخول فيها فكريا او فيزيائيا، فتنتقل من داس كبيتال او كتاب رأس المال الى هوبز ثم الى روسو ثم الى عصر ما بعد الصناعة ودانيال بيل، الى اخر ما بعد البنيوية، ولكن كلها لغات معروفة ومحسوبة في تلك الحواري بهدف زيادة السعر وتعطيل الحال، ولكنك تبقى في النهاية محاصرا بنفس الاشياء: ما ستدفعه بعد مفاوضات مضنية تسبقها قصة تأخذ الدموع من عينيك، لابتزاز اكبر قدر من البقشيش، وتجد نفسك في النهاية تتساءل لماذا ادخلني هذا السائق في هذه الحارات، رغم انها ليست من لزوم ما يلزم؟ لماذا ورغم انه «طاكسي صغير» كالذي تراه في مدينة الدار البيضاء في المغرب لماذا يقحم هذا المثقف المحلي نفسه في حكاية روسو وفوكو، هل هذا هو لزوم العولمة ام لزوم المَعْلمَة.

3 ـ شكاوى المثقف التاكسي غالبا ما تجد سائق التاكسي ماقتا لكل شيء، فيكلمك عن الانحلال والفساد في حالة السيدة التي كانت راكبة قبلك، وكذلك عن الرشوة المستشرية في المجتمع، وقبل ان ينتهي هذا الحديث تجده قد خالف واحدة من قواعد المرور وما ان سجل عسكري المرور ارقامه وجدته يتفاوض معه ويدس في جيبه بعض النقود وينطلق مسرعا، يصرخ من الناس على انهم «حرامية» وانت ترى بأم رأسك وهو واضع يده في جيبك، وعسكري المرور واضع يده في جيب السائق وكلاهما يصرخ «اتسرقنا» في ذات اللحظة.

لا أود الاشارة الى مقابل ذلك في حالة المثقف حتى لا اطيل المقال، ولكن المثقف التاكسي هو غالبا في حالة تجده واضعاً يده في جيبك وفي جيب السلطة ايضا، ويدعي انه هو المظلوم الوحيد في هذه المعادلة لانه «سُرق».

المثقف التاكسي يظهر في حالة غياب قواعد للعبة، لانه هو المستفيد الوحيد من حالة غياب معايير تميز الغث من الثمين، في حالة تعكير الماء هذه وحالة الفوضى، تطبق مخالب المثقف التاكسي على تلابيب الامور فيخالف بذلك كل قواعد المرور وكل التزامات شرف المهنة، حالة الانفلات في المعيار الثقافي لمن تعلم وأين؟ وماذا قرأ؟ وهل يحقق له ما قرأ القدرة على ان يكون مثقفا ملما؟ تخلق هذه الحالة جوا من الفوضى يكون المستفيدون الاوائل فيها هم مثقفون تاكسيات وبالنفر احيانا، وفي الطرقات الخلفية ايضا.

4 ـ محاولة للإصلاح اول ما تركب هذا التاكسي، يحذرك السائق بألا تشد الباب بقوة «لحسن الباب يطلع في ايدك»، ترى ماذا انت قائل، لا بد ان تقول له ان مسألة اصلاح الباب تخص التاكسي لا الراكب، في حالة المثقف تكون مسألة اصلاح الباب هذه مساوية للقراءة المستمرة والاحتكاك الفكري وحضور المؤتمرات والندوات والمشاركة بالبحث، دونما تحسيس على نقاط الضعف الناتجة عن الصناعة المحلية لهذا الباب «المخلع». في الحوار الفكري كما في كل الامور المنافسة، الاساس والحجة البرهان من اساسيات العرفان.

وكل ما يلزمنا في حالة المثقف التاكسي هو الالتزام بقواعد المرور، التي تتمثل بالحصول على درجة علمية من مكان معترف به، والقراءة المستمرة في مختلف العلوم، فلا يمكن ان تكون تاكسيا من المطار الى البيت ثم تضبط وانت واقف في ميدان في وسط البلد و«بتركب بالنفر»، لا يقبل ان تكون ليموزين ثم نراك في حالة تعاط مع اشرطة الشيخ كشك، لا بد ان تكون غير ذلك، لا بد ان تكون لديك صحف عالمية في شبكة الكرسي للزبون الجالس خلفك، بالطبع هناك اختلاف بين المثقف التاكسي والمثقف الليموزين، المثقف الليموزين غالبا ما يكون اكثر اناقة والتزاما لان زبونه في الغالب هو السلطة او رجال الاعمال او الاجانب، ولذلك هو يعتني بالسيارة مخبرا ومظهرا، قد تجد مصفحا موضوعا على التابلوه الامامي للسيارة، او مسبحة معلقة في المرآة، رموزاً محددة للدين ولكن دونما صخب او اشرطة كاسيت وربما ايضا تجد علما للبلد المنتمي اليه الليموزين او لبلد الزبون، ولكن دونما «دندشة» سيارات الاجرة في ميدان العتبة.

حتى نتلاشى حالة التدني التي تحاصرنا وكذلك نحاصر ظاهرة «المثقف التاكسي» في حالة العالم العربي الذي يتحدث عن افكار اليسار مع اول زبون وعن العولمة مع زبون اخر، لا بد من تحديد تسعيرة العداد وبشكل يتناسب مع حياة كريمة للمثقف حتى لا يضطر ان «يركب بالنفر» او «يضيف زبوناً على زبون» او يسلك طرقا خلفية تفاديا لعسكري المرور.

لا بد ان تكون ايضا هناك ضوابط مرورية على الطريق على هيئة علامات واشارات مرور لا ترتشي كعسكري المرور، ولا بد من الالتزام بهذه القواعد التي تحكم سلوك المثقف والتاكسي حتى نتجنب حالة «المثقف التاكس». ان لم نرفع هذه التسعيرة ونوحدها في بعض الامور سيستمر الحال على ما هو عليه فنجد الافكار خليطاً من سقط المتاع الثقافي بنفس الطريقة التي يعيش عليها المثقف التاكسي التي تتمثل في نظارة تركها زبون قبل المغادرة او جهاز موبايل، واجرة زائدة وكذلك بقشيش لخدمة سيئة للغاية ولداخل سيارة وداخل افكار ذات رائحة لا تحتمل.