قمة بيروت ومصارحة الجماهير العربية

TT

اصوات الجماهير العربية الجياشة والملتهبة حماسا وغضبا على اسرائيل، وصلت بقوة الى القادة العرب وهم في طريقهم الى قمة بيروت. الجماهير تريد من القادة العرب تقديم المزيد من الدعم لانتفاضة الاقصى، وهو الامر الذي اعلن القادة العرب عن التزامهم به في قمتي عمان والقاهرة الاخيرتين، ولكن اصوات فئات واسعة من الجماهير العربية المتأثرة بالتضحيات التي يقدمها بعض شباب وفتيات فلسطين تطالب اليوم بتقديم السلاح الى الانتفاضة الفلسطينية وعدم الاكتفاء بتقديم الدعم المالي والسياسي. فغالبية الجماهير العربية تعتقد ان اسرائيل سوف ترفض مبادرة ولي العهد السعودي الامير عبد الله بن عبد العزيز التي سيتم اقرارها في بيروت، ولهذا فإنها تطالب القادة العرب بأن يتبنوا في قمة بيروت اضافة الى اقرار مبادرة الامير عبد الله للسلام، وضع خطة عمل بديلة لدعم الانتفاضة الفلسطينية بالمال والسلاح وحتى بالمقاتلين وذلك في حال رفض حكومة شارون لمبادرة السلام العربية واستمرارها في عمليات القمع الوحشية ضد الفلسطينيين. هذه الرؤية الجماهيرية يمكن ادراكها بسهولة من خلال متابعة الصحافة العربية وبعض برامج الفضائيات العربية الساخنة. وهناك مجموعة واسعة من المثقفين العرب الذين يؤيدون هذه الرؤية الجماهيرية ويغذونها في طروحاتهم التي يتناولون بها قمة بيروت. فالمثقفون العرب يفضلون عادة ارضاء الجماهير ويتجنبون مصارحتها بحقائق الواقع الصعبة. وقبل النظر في الاستراتيجية التي يمكن ان يتبناها العرب في حال رفض اسرائيل لمبادرة السلام السعودية ينبغي التأمل قليلا في اهمية هذه المبادرة وتأثيرها على شارون.

لقد اصبح شارون رئيسا لوزراء اسرائيل بعد ان وعد الاسرائيليين بأنه سوف يقضي على الانتفاضة ويوفر لهم الامن ولكن المقاومة الفلسطينية والتضحيات التي قدمها شباب وفتيات فلسطين افشلت مخططات شارون، وكان من المفترض لموقف شارون ان يهتز داخل اسرائيل وبين يهود امريكا واوربا ولكنهم تمسكوا به واستمروا في دعمه لمجموعة من الاسباب من اهمها:

1 ـ نجاح اليمين الاسرائيلي المتطرف في اقناع غالبية اليهود في اسرائيل وخارجها بأنه اذا لم يتمكن شارون من تحقيق الامن للاسرائيليين فمن من قادة اسرائيل سوف يتمكن من تحقيق ذلك؟

2 ـ ولقد نجح اليمين الاسرائيلي المتطرف ايضا في اقناع اليهود بأن هدف الفلسطينيين الذين روعوا اسرائيل في العمليات الانتحارية التي ينفذونها هو القضاء الكامل على اسرائيل، وان الاستجابة الى مطالبهم في الوقت الحاضر سوف تدفعهم الى المزيد من العمليات الانتحارية حتى يتمكنوا من تحقيق هدفهم النهائي.

واستمر شارون في قمعه الوحشي للانتفاضة وفي تنفيذ عملياته العسكرية الشرسة ضد ابناء الشعب الفلسطيني معتمدا على ارضية قوية من الدعم اليهودي العالمي لسياسته القمعية. وقبلت واشنطن بسياسة شارون ودعمته في بعض الحالات، واغمضت اوربا اعينها عن عمليات القتل التي يمارسها، ولم يعط الرأي العام العالمي اهتماما كبيرا للمذابح التي تمارسها اسرائيل بحق الشعب الفلسطيني، ويرجع ذلك الى عدة اسباب:

1 ـ الاعتبارات السياسية المحلية الامريكية ونجاح جماعات المصالح اليهودية في التأثير على سياسة الرئيس بوش.

2 ـ تداعيات احداث 11 سبتمبر التي جعلت الاهتمام الاول لامريكا واوربا يتركز على محاربة الارهاب وملاحقة بعض الجماعات المتطرفة التي ترفع شعار الاسلام.

3 ـ نجاح الحكومة الاسرائيلية في استغلال العمليات الانتحارية التي يقوم بها بعض الفلسطينيين بالشكل الذي جعل اسرائيل تظهر احيانا، امام الرأي العام في امريكا واوربا والرأي العام العالمي بصفة عامة، بمظهر الدولة المضطرة الى ممارسة العنف لمواجهة العنف الفلسطيني. وعوضا عن ان يركز العالم على العمليات الدموية لاسرائيل بحق الشعب الفلسطيني ويمارس الضغط لوقفها اصبح العالم يتحدث عن دائرة العنف الاسرائيلية ـ الفلسطينية التي تتوسع وتتفاقم بسبب المغذي المرجع الذي ينتج عنها. فالعنف الاسرائيلي يولد عمليات انتحارية فلسطينية وهذا بدوره يقود الى المزيد من العنف الاسرائيلي وهكذا. وخطورة هذه النظرة هي ان العالم لم يعد ينظر للشعب الفلسطيني بوصفه الضحية وانما اصبح ينظر اليه بوصفه جزءا من دائرة من العنف مستمرة في افرازاتها ومتفاقمة في نتائجها.

ولم يعد بإمكان القادة العرب ترك الفلسطينيين وحدهم في هذه المواجهة الدموية القاسية. وغني عن القول ان اعتبارات دعم امريكا العسكري لاسرائيل، والدروس التي تعلمها العرب جيدا من حروبهم السابقة مع اسرائيل، تجعل استراتيجية الحرب غير متاحة امام العرب في الوقت الحاضر. وما دامت الدول العربية غير قادرة على هزيمة شارون عسكريا فلقد اصبح البديل يتركز على الحاق هزيمة سياسية كبيرة به. وتم تحقيق ذلك في مبادرة الامير عبد الله التي قدمت لاسرائيل ضمان حياة طبيعية في المنطقة مقابل انسحابها من جميع الاراضي العربية المحتلة. فالظروف الموضوعية التي يعيشها الفلسطينيون والعرب ومعاناة الشعب الفلسطيني هي التي دفعت الامير عبد الله لتقديم مبادرته، وهي التي جعلت الغالبية العظمى من الاصوات العربية الرسمية والجماهيرية تدعم مبادرة الامير العربي السعودي. فلقد ادت هذه المبادرة الى ارتفاع اصوات قوية ضد شارون داخل اسرائيل وخارجها، واصبح شارون يواجه بعض الضغوط حتى من ادارة واشنطن التي كانت حتى الامس القريب تدعمه بشكل مطلق. وسوف يؤدي اقرار قمة بيروت للمبادرة السعودية الى ممارسة المزيد من الضغط الاوربي والامريكي على شارون. فلقد سحبت مبادرة الامير عبد الله البساط من تحت اقدام شارون، وقد تؤدي الى سقوط وانهيار حكومته.

ولكن ماذا لو ان شارون رفض المبادرة السعودية التي ستصبح مبادرة عربية بعد اقرارها في قمة بيروت، وتمكن، بالرغم من ذلك، من البقاء في السلطة واستمر في عمليات قمعه للشعب الفلسطيني؟

عوداً على بدء اقول بأن الجماهير العربية الغاضبة تطالب بتزويد المقاومة الفلسطينية بالسلاح والرجال، ولكن ايصال السلاح للفلسطينيين عبر دول المواجهة العربية (مصر وسورية ولبنان والاردن)، سوف يدفع اسرائيل الى استغلال الفرصة لتوجيه ضربات عسكرية الى هذه الدول وغيرها بالشكل الذي يلحق بها اضرارا اقتصادية وعسكرية كبيرة، وسوف تتمكن اسرائيل ايضا من ابعاد انظار العالم عن ممارساتها ضد الفلسطينيين، حيث سيتم التركيز على تطورات حربها مع الدول العربية.

ولهذا ينبغي مصارحة الجماهير العربية مسبقا، وتوضيح الصعوبات والعقبات العسكرية والسياسية التي تعيق تزويد الفلسطينيين بالسلاح. والاستراتيجية الممكنة والاقرب للتطبيق التي يمكن للعرب الاعتماد عليها في حال رفض اسرائيل للمبادرة العربية ينبغي ان تتضمن نقطتين رئيسيتين: زيادة الدعم المالي والسياسي والاعلامي لانتفاضة الاقصى. وتكثيف العمل السياسي العربي في اوربا وامريكا، وبذل جهود كبيرة لكسب الرأي العام العالمي، واقناعه بأن العمليات الانتحارية التي يقوم بها شباب وفتيات فلسطين لا تهدف كما يدعي شارون الى القضاء الكامل على اسرائيل وانما هي رد فعل جماهيري تلقائي على الاحتلال الاسرائيلي وعلى عمليات القمع الاسرائيلية. فإذا لم يوافق شارون على مبادرة السلام العربية فسوف تكون هناك فرصة سياسية كبيرة متاحة داخل اسرائيل وخارجها لاسقاطه، وينبغي على العرب معرفة حسن استخدام هذه الفرصة. والحكومة التي ستأتي بعد شارون سوف تقبل على الاغلب بالمبادرة العربية للسلام وخاصة بعد معاناة اسرائيل الكبيرة من انتفاضة الاقصى.