هرولة غير مبررة نحو حوار عقيم

TT

ثمة هرولة باتجاه الحوار مع «الآخر» تتطلب بعض التروي والمراجعة. ذلك أن أي متابع لما يجري في الساحة العربية بوجه أخص يلاحظ أن مسألة الحوار هذه تحولت الى «صرعة» الموسم، اذا جاز التعبير. فما من مؤسسة في بلادنا ذات صلة بالثقافة أو الدعوة أو السياسة، إلا ورفعت في الآونة الأخيرة شعار الحوار، وسعت بصورة أو أخرى لابراء ذمتها واثبات حضورها في قائمة المتحاورين.

لست ضد الحوار كما لا يخفاكم. بل ازعم أن أحداً لا يستطيع أن يزايد على ثقافتنا في احترام هذه الدعوة ، فكتاب الله الذي بين أيدينا، لأنه كتاب هداية، فهو كتاب حوار مع الآخر، مخالفاً كان أم متشككاً ومخاصماً. لكن مايشغلني بالدرجة الأولى هو جدية الحوار وجدواه، وكيف يكون قاعدة في التعامل مع الآخر، وليس مجرد صرعة تحل بنا ذات حين، فيتسابق نحوها المتسابقون في ظرف تاريخي معين، ثم ينصرف كل إلى حال سبيله بعد ذلك، كما حدث مع ملفات أخرى أثارت جدلاً وضجيجاً في أوقات سابقة، ثم طواها النسيان بعد ذلك. وليست بعيدة عن ذاكرتنا تلك الحوارات التي شغل بها الجميع في بداية التسعينيات حول «التعددية»، وكان ذلك بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتفكيك منظومة الدول الاشتراكية ، ومن ثم الانتقال بالنظم السياسية من الاحادية وهيمنة الحزب الواحد، الى شكل وقيم النظام الديمقراطي. ويبدو أن التعددية حين أخذت على محمل الجد فانها أتت بريح مما لا تشتهيه السفن (كما حدث في الجزائر مثلاً وبدرجة أقل في مصر)، فحينئذ خفتت الأصوات الداعية لها بصورة تدريجية، حتى لم يعد يأت أحد على ذكرها الآن.

جرنا الحديث آنذاك من التعددية الى صرعة أخرى تمثلت في التلويح برايات حقوق الانسان والمجتمع المدني، التي ما لبثت أن انتكست في عالمنا العربي على الأقل (وهو ما حظى بتأييد عالمي بعد 11 سبتمبر (أيلول) بل وضربت الولايات المتحدة المثل في الاطاحة بمبادئ حقوق الانسان) وحدثت الانتكاسة حينما تبين أن من شأن ذلك المسار أن يؤدي الى صدام مع أكثر الأنظمة، وهو ما لم يكن «النشطاء» مستعدين له أو راغبين في تحمل تبعاته. فطويت تلك الصفحة بدورها، حتى أصبحت الانتهاكات التي تمارس بشأن حقوق الانسان أخباراً عادية، لا تثير استنكاراً أو استياء من جانب الرأي العام.

ولابد أن كثيرين يذكرون كيف تحولت «العولمة» الى صرعة أخرى. حيث تحولت إلى موضوع وعنوان لما لا حصر له من المؤتمرات والندوات، والأبحاث والكتب والخطب السياسية، حتى لم تعد هناك جهة لها صلة بالسياسة أو الثقافة إلا وأدلت بدلوها في الموضوع، وما من مثقف إلا وقال كلمة فيه، قدحا أو ذما.

أما صرعة الموسم فتتمثل في مسارين متوازيين، أولهما الحملة ضد الارهاب، وهذه تقودها الولايات المتحدة بمختلف السبل، وتجر وراءها مختلف دول العالم في الغرب والشرق . وثانيهما حوار الحضارات، الذي كانت شرارته الأولى قد أطلقت في الولايات المتحدة بعد الذي كتبه صمويل هانتنجتون في عام 93 حول «صدام الحضارات». وهي النبوءة التي وجد البعض فيما جرى في 11 سبتمبر تصديقا لها، وشاع ذلك التصديق بدرجة أكبر في العواصم الغربية، وواشنطون في المقدمة منها.

ان ما يهمني في السياق الذي نحن بصدده هو المسار المتعلق بالحوار (للحملة على الارهاب كلام آخر)، فانني استأذن في تسجيل عدة ملاحظات وتحفظات على ادارته تتمثل فيما يلي:

من حيث الشكل فان الأمر لا يخلو من مفارقة لأن الحوار مع الحضارات الأخرى يفترض أن يكون خطوة تالية أو حتى موازية لحوار آخر يجري في داخل كل حضارة. وما حدث كان تجسيداً للمفارقة، حيث ركض كثيرون للحوار مع الآخر الخارجي، بينما هناك تغييب شبه تام للحوار مع الآخر الوطني أو القومي، الأمر الذي يعني أن الأمر لا يعبر عن اقتناع حقيقي بقيمة الحوار، بقدر ما هو أداء لدور وظيفي في ظرف معين. ان شئت فقل اننا بصدد اعداد شريط عن الحوار في ممارسات دعائية واعلامية لا أكثر.

ان الصرعة أخذت مداها البعيد بعد 11 سبتمبر، وبما فيها أن العرب والمسلمين يتصرفون وكأنهم متهمون ومسؤولون عما جرى، ومن ثم فقد حرصوا على كسب ود «الآخر»، والتكفير عن الذنب الذي اقترفه نفر من أبنائهم. ورغم أنه لم يثبت «قضائياً» أن العرب هم المسؤولون عما جرى. وحتى اذا ثبت أنهم الفاعلون والمسؤولون ، فذلك ذنبهم وحدهم، وليس مفهوماً أن تحاسب الأمة كلها على فعلهم، وأن تتحمل مسؤولية ما ارتكبوه من جرم. الأمر الذي يعني أن توقيت الحوار لم يحالفه التوفيق، حيث كان ينبغي أن ينفصل عن الحدث الأمريكي وظلال الشعور غير المبرر بالذنب ازاءه.

ان ما بذل من جهد باسم الحوار بين الحضارات خاطب الحضارة الغربية وحدها، باستثناء حوار جرى في البحرين مع اليابانيين، فان كل الوفود التي ذهبت الى الخارج قصدت عواصم الغرب، وكل الذين قدموا من الخارج للمشاركة فيما انعقد من ندوات أو مؤتمرات للحوار في بعض عواصمنا العربية قدموا من الغرب، وفي هذا تجاهل معيب لحضارات أخرى في الشرق لا يمكن تجاهلها، صينية وهندية ويابانية وروسية.

ان العملية اكتنفتها حالة من الفوضى الشديدة في تنظيمها، بل ان الأمر لم يكن فيه أي تنظيم حيث لم يحدث تنسيق بين الوفود المسافرة مثلاً من خلال أي ترتيب مؤسسي. الأمر الذي نجم عنه ان سافر اكثر من وفد لعاصمة واحدة، أو قاموا بجولات في نفس العواصم، وفي حالات عدة كان بعض أعضاء الوفد المسافر هم أنفسهم الذين كانوا قد شاركوا في مهام مماثلة نظمتها جهات أخرى.

اكتنفت الفوضى أموراً أخرى، فالذين ذهبوا ـ في حالات كثيرة ـ لم يكن واضحاً في أذهانهم سوى حد الرغبة في الدفاع عن الاسلام، وأحياناً محاولة تحسين الأقطار التي يمثلونها. لايهم كيف ، ولا في مواجهة من ، ولم يكن مهماً أيضاً أن يكون المسافرون ممن يجيدون لغة التخاطب مع المجتمعات التي ذهبوا اليها. واذا طمأنوا الى أن معهم مترجمين، فانهم نسوا أن الترجمة عادة ما تختصر نصف ما يقال من كلام.

ان أحداً لم يفكر في الاكتفاء أو الاستعانة بالمراكز والعناصر الاسلامية النشطة المقيمة في الخارج، التي هي أقرب إلى العقول فضلاً عن ألسنة النخب أو الرأي العام الأجنبي الذي يراد مخاطبته.

الذاهبون لم يكن واضحاً في أذهانهم التمييز بين الحوار الفكري والعمل الدعائي. في حين أن الفرق كبير بين الاثنين، سواء في اختيار العناصر المشاركة أو تحديد الساحات أو الدوائر المراد مخاطبتها. فالحوار الفكري يقدم به أهل العلم، والعمل الدعائي يختص به خبراء العلاقات العامة بالدرجة الأولى. ولظن أن الذي حرك الوفود العربية والاسلامية كانت تلك الحملات الشرسة التي شوهت الاسلام والمسلمين بعد 11 سبتمبر، فان رد تلك الحملات ما كان له أن يتحقق من خلال الزيارات التي يقوم بها نفر من الدعاة والمفكرين ثم أنه لا يتم بعقد الندوات التي تلتئم ثم تنفض بعد ساعات أو أيام، وانما المطلوب في هذه الحالة عمل دعائي مستمر لأجل أطول، يقوم به خبراء مختصون بالعلاقات العامة وهذا ما لم يحدث للأسف.

في حدود علمي فان ترتيب سفر الوفود مستمر، ومن ثم فان تكرار الأخطاء مستمر أيضاً، حيث لم نسمع أن أحداً أجرى تقييماً للخطوات التي اتخذت حتى الآن، ولو من باب ترشيد الانفاق وتوجيه الموارد للانتفاع بها على نحو أفضل، وقد بدأ الشك يساورني في أن أكثر الذين يرتبون السفرات كانوا يخاطبوننا بأكثر مما يخاطبون الغربيين الذين ذهبوا الى عواصمهم، فحرصوا على الحضور في الاعلام العربي، لاخبار كل من يهمه الأمر بأنهم يقومون باللازم في الدفاع عن الاسلام وعن بلاد المسلمين. في حين أنهم ذهبوا الى تلك العواصم ثم عادوا منها ولم يشر أحد هناك إلى وجودهم، ولا تسأل عن مردود زياراتهم وتأثيره على الرأي العام أو النخبة في البلاد التي زاروها، ولذلك فلسنا نبالغ اذا قلنا إن مثل ذلك الحوار كان عقيماً ولم يحقق المراد منه.

حين أدرك أولو الأمر في الدول الغربية خصوصاً في الولايات المتحدة، حقيقة المشاعر السلبية في العالم العربي ازاء سياسة بلادهم، فانهم لم يرسلوا وفوداً الى عواصمنا لتجميل الصورة، ولكنهم لجأوا الى وسائل أخرى أجدى وأنفع، ولها تأثيرها الفعال في الرأي العام، فأقاموا في منطقة الخليج محطة اذاعة باللغة العربية تابعة لصوت أمريكا، وبثا الكترونيا باللغة العربية أيضاً باشرته محطة «سي. ان. ان». وقام الدبلوماسيون الأمريكيون بتوزيع أشرطة وكتيبات لعلماء مسلمين أدانوا فيها ما جرى في 11 سبتمبر، طافوا بها في العواصم العربية، وأوصلوها الى مختلف المراكز الثقافية والشخصيات العامة. وها نحن نطالع في صحفنا العربية كتاباتهم تطل علينا بين الحين والآخر، حاملة الينا أفكارهم ومسوغة سياساتهم . وسواء أعجبنا ذلك أم لم يعجبنا، فان أحداً لا يستطيع أن ينكر عليهم ما يفعلون، لأنهم يقومون بواجبهم في الدفاع عن قضاياهم. اما الذي نفعله فيتعذر اعتباره وهو بهذه الصورة ، من قبيل القيام بالواجب. وأترك لك أن تطلق عليه التسمية المناسبة، لكني ازعم ان المبالغ التي انفقت أو تلك ستنفق على رحلات الوفود وتنظيم المؤتمرات لو أنها جمعت ورصدت لحساب مشروع محطة تليفزيونية محترمة تخاطب من تريد مخاطبتهم بلغتهم ومن خلال فنون الاتصال المختلفة، لو أننا فعلنا ذلك لكان أجدى وأنفع لا ريب، ولاثبتنا اننا حقاً جادون في القيام بواجبنا.