بالقميص الجينز

TT

ما اصغر القلم في مثل هذه الساعات العملاقة. وما اهزل الكلمات امام قوة الأنفس العظيمة الصامدة في قرى ومدن الارض المحتلة. وماذا يساوي خطاب او كتاب امام مشهد واحد من مشاهد القوات النازية تدق البيوت والمقار والطرقات وتحاول عبثاً ان ترعب الاطفال والنساء والرجال الذين يطلبون شيئاً واحداً: جلاء الاحتلال.

«هذه المرة نحن نقاتل في الارض ولن نتركها»، كان يقول شفيق الحوت، في صوت متعب. ولكن قبل ان يبدأ اي كلام قال: «اسمحوا لي، اولا، ان احيي الرئيس ياسر عرفات». كان شفيق الحوت يمسح من ذاكرته وذاكرة قرائه نحو عقد من محاربة اوسلو ومعارضة ياسر عرفات، بعدما كان في الماضي احد اقرب الناس اليه. واليوم عاد، مثل جميع الذين خرجوا يوم الدخول الى اوسلو، للوقوف الى جانب «الختيار» الذي نفدت الشموع من مقره وجفت المياه من الحنفيات، لكنه يواجه ظلام الارض والى جانبه مجموعة من الشجعان الذين لا يتعبون.

ذهبت الى النوم منتصف ليلة الاثنين بعدما سمعت آخر تصريح لوزير الاعلام الفلسطيني ياسر عبد ربه. وفي السابعة والنصف صباح امس فتحت التلفزيون فسمعت ياسر عبد ربه يتحدث عن آخر الاوضاع. ولا اعتقد انه ذهب الى النوم. لا يخلد الى النوم المحاطون بالحرائق. واذ يخيَّل الينا ان ما يحدث هو تكرار لبيروت 1982 سرعان ما ننتبه الى الفارق: هذه المرة الدبابات في غرفة ياسر عرفات وليست على بعد 5 كيلومترات منه.

تعلن اسرائيل ان «حماس» خلف القنابل ثم تحمل على ياسر عرفات. وتعلن ان «الجهاد» هي الارهاب ثم تحمل على ياسر عرفات. وترفض الدخول في اي مفاوضات ثم تحمِّل ياسر عرفات المسؤولية. وتعلن الولايات المتحدة ان «حماس» و«الجهاد» منظمتان «ارهابيتان» ثم تقاطع ياسر عرفات وتتركه عرضة للتنكيل الشاروني بلا جملة اعتراضية واحدة. بل يدعو جورج بوش الصحافيين الى التكساس، وهو في قميص الجينز وسروال الجينز، ويطلب من ياسر عرفات لجم العنف! للمرة الاولى منذ بدء الحصار الكبير بدأ رجال عرفات يتهمون اميركا مباشرة، بعدما كانوا يتجنبون ذلك ويمارسون اصعب نوع من ديبلوماسية ضبط النفس. لكن بعد ظهور المستر بوش بقميص الجينز في التكساس على بعد عشرة آلاف ميل عن القضية، بدأ مسؤولو السلطة يتحدثون عن «الانحياز» الاميركي. وفي واشنطن كان مستشار جيمي كارتر للامن القومي، زبغنيو بريزنسكي، يقول مساء الأحد، ان الادارة الاميركية مقصرة، وان عليها التحرك، وانه لا بد من ربط اي هدنة امنية (كما يطلب شارون) بعرض للدخول في مفاوضات سياسية، وان الاستنكار لا يكون لفريق واحد وانه لا يجوز ان نختصر كل شيء في كلمة واحدة: الارهاب، الارهاب، الارهاب. هذا بالحرف ما قاله حكيم اميركا في زمن غياب الحكمة.

لا اعتقد ان جورج بوش كان يصغي. لا ازعاج في عطلة الاسبوع، فالرئيس في ثياب الراحة لأن العالم بخير: من افغانستان الى قلقيلية. الرجاء عدم الازعاج. في الماضي، كان رئيس اميركا يترك مقر عطلته في كامب ديفيد ويعود الى البيت الابيض لاسباب اقل اهمية من هذه الاسباب بمائة مرة. فالظهور بثياب الجينز في التكساس في مثل هذه الازمات الدولية ليس احتقاراً للازمات نفسها بل هو ازدراء لدور الشرطي الدولي الذي يرسل الاساطيل الى افغانستان والقوات العسكرية الى ابخازيا وجورجيا و«الخبراء» الى باكستان، ويرفض ارسال وفد من المراقبين الدوليين الى الاراضي المحتلة. لم يكن مطلوباً من الرئيس الاميركي اكثر من ان يتابع القرار الذي اقترع عليه في مجلس الامن. ان يتصل بشارون، بكل ود واحترام، ويسأله بحنان ماذا حدث للقرار الدولي المطالب بالانسحاب من مدن الضفة؟

لقد حدث، سيادة الرئيس، ما حدث لسواه من قبل. ويمكنك بكل بساطة ان تعثر على البنود والفقرات تحت جنازير الدبابات التي وسعت احتلالها منذ صدور القرار الى اليوم عدة اضعاف. لقد استقبل شارون قرار مجلس الامن ومبادرة السلام العربية بالطريقة التي اعتادها دوماً. ولا استطيع ان انهي هذه الزاوية من دون التوقف عند تصريح للناطق الرسمي في الخارجية البريطانية صباح امس الاثنين، اذ قال يوم قال: «اننا نتمهل للاطلاع على حقيقة ما يجري في رام الله». لا تعذب نفسك يا سعادة الناطق. لا شيء في رام الله. مجرد حفل على شموع خافتة، لا يراه كل من كان ضرير الضمير.