قمة إعلان السلام على أميركا وإسرائيل.. وتصحيح الوضع العربي

TT

بدل ان تجد الادارة الاميركية في القمة العربية الدورية الثانية في بيروت أنها خير تأكيد لإصرار الدول العربية ومن دون استثناء للمرة الاولى على التمسك بالسلام كخيار استراتيجي وأنها بالروحية التي سادت اجواءها تشكل افضل السبل لإنقاذ العملية السلمية، وتمارس من الضغط على صديقها وحليفها ارييل شارون ما يجعله يسلك طريق الهداية... إن الادارة الاميركية بدل ذلك رحبت بفتور وبمفردات جاءت دون التوجه العربي الواضح والمسؤول، وكأنما ارادت بذلك ان يواصل شارون مخططه الشرير. وفي ضوء ذلك يحتار المرء في امر هذا الموقف من الادارة الاميركية، بمعنى هل انها تمارس اللعبة مع شارون على المكشوف وأن مصلحة الجانبين ألاَّ يكون هنالك حل ولا يكون هنالك سلام ولا يكون هنالك استقرار في المنطقة، لأن السلام والاستقرار معناهما ان اسرائيل ستأخذ حجمها بحيث تكون صغرى في المنطقة لا أكثر وأن هذا الوجود العسكري الاميركي سيأخذ هو الآخر حجمه بحيث لا يبقى على النحو الذي هو عليه ما دام الاستقرار بات محروساً بالنوايا العربية والايرانية الطيبة والتسليم بتجربة جديدة هي تعايش الاكثرية العربية مع اقلية يهودية.

ونحن عندما نتأمل في ما انتهت اليه اعمال القمة العربية الدورية الثانية من نتائج وما ساد اجواءها من ممارسات، نجد الإجابة الواضحة لدواعي انزعاج الادارة الاميركية من هذه القمة ونجد ايضاً التفسير الكثير الوضوح للجنون الشاروني المستشري الذي وصل الى حد اجتياح السلطة الوطنية الفلسطينية من خلال عمليات حربية يمكن ان تحدث بين جيشين كبيرين، وهي عمليات تفتقد الى الشجاعة إنما ليس بين الجيش الأهم في المنطقة وشعب يملك افراد منه بعض البنادق والرشاشات. وما بثته الفضائيات عن هذا الاجتياح اظهر كم ان الجنود الاسرائيليين مختبئون داخل دبابات وجرافات ومصفحات لا نرى وجوههم، ويتحركون على بقعة من الارض لا تتحمل بلغة المعارك ان تكون اكثر من ساحة لمواجهات بالسلاح الابيض. كما ان هذا الاجتياح اظهر مدى افتقاد المؤسسة العسكرية الاسرائيلية الى القواعد المتعارف عليها في اخلاقيات الذين يخوضون الحرب. وهذا في اي حال ليس ما يعنينا هنا، وإنما الذي يستوقفنا هو اجواء القمة وروحية الانظمة العربية في التعامل مع هذه المناسبة، والنتائج التي انتهت اليها القمة وشكلت المفاجأة والانزعاج للادارة الاميركية والهلع للشارونية التي لا يعنيها التعقل في شيء ومن اجل ذلك كان اجتياح السلطة الوطنية وبحجة لا تستوجب مثل هذا الاجتياح.

وما حدث في القمة وانتهت اليه من نتائج يمكن تسجيلها في الملاحظات الآتية:

ـ الدليل على اهمية هذه القمة هو من خلال المقارنة بين الوضع كما كان عليه حتى يوم الثلاثاء 26 مارس (آذار) 2002 والوضع كما بات في اليوم الاول لإنعقاد القمة ثم في اليوم الثاني. واليومان من الايام المشهود لها على الصعيد الإيجابي في تاريخ الحياة السياسية العربية. وبالنسبة الى الادارة الاميركية ومعها اسرائيل فإن الوضع حتى عشية انعقاد القمة كان مثالياً. فالمبادرة السعودية قابلة للانهيار عندما ستبدأ مناقشتها وبذلك تصبح مجرد اجتهاد سعودي يمكن صرف النظر عنه. ولكن الاستقبال الذي لقيته المبادرة كان بالغ الاهمية ومفاجئاً للادارة الاميركية والحليف الشاروني حيث ان الجميع تسابقوا وكأنما لسان حال كل دولة في المؤتمر أن هذه المبادرة هي مبادرتها وأن ولي العهد السعودي الامير عبد الله بن عبد العزيز ناب عن الجميع عندما خطرت الرؤية في باله وعندما رآها سلاحاً يمكن استعماله والاستفادة منه في المواجهة السياسية. وهكذا باتت المبادرة عربية ومن دون ان يعني الالتفاف حولها ان بعض الاجتهادات والتحليلات والتنظيرات، على نحو ما كان لافتاً للانتباه في كلمات البعض، ليس ضرورياً. وعلى سبيل المثال لا الحصر ما قاله، في صيغة مطالعة اثبتت مرة اخرى قدراته كرجل دولة عند الحديث عن قضايا شائكة، الرئيس السوري الدكتور بشار الأسد وما قاله الرئيس اليمني علي عبد الله صالح. والإثنان وجدا ان اعلان السلام على اسرائيل على نحو ما تراه المبادرة السعودية بديل لإعلان الحرب على شارون على نحو ما يتطلع اليه الرأي العام العربي ويتشوق اليه بعض الجيوش العربية رداً على الاهانة الشارونية، لا يتعارض مع دعوة كل منهما الى قطع علاقات البعض مع اسرائيل او تجميدها في الحد الادنى. وإذن فإن المبادرة السعودية التي بدأت رؤية باتت مبادرة عربية كثيرة الوضوح والشروط وبامتياز ومن خلال الترحيب والاشادة وليس من خلال التصويت برفع الايدي. وهذا ما رأت فيه الادارة الاميركية ما من شأنه ان يشكل إحراجاً لها ورأت فيه حكومة اسرائيل ما من شأنه ان يهز مفاهيمها ويطوق اطماعها خصوصاً ان المبادرة تخاطب الرأي العام الاسرائيلي لعله يسجل وقفة لمصلحة اجياله في اتجاه الاقتناع بأن المبادرة يمكن ان تكون الجسر الذي تعبر عليه الاجيال من اسلوب التدمير الذي يعتمده ارييل شارون موهماً الاسرائيليين بأن خلاصهم هو في هذا الاسلوب الى منطق التعايش، انما ضمن واقعية التعايش من جهة وشُرعة القانون وليس شرعة الغاب من جهة اخرى.

ـ والدليل ايضاً على اهمية القمة هو المقارنة بين الموقف العربي من السلطة الوطنية الفلسطينية وانتفاضة الاقصى كما كان عليه حتى عشية القمة وما حدث في اليوم الاول للقمة ثم في اليوم الثاني.

ـ والدليل ايضاً وايضاً على اهمية هذه القمة هو من خلال المقارنة بين الوضع كما كان عليه عشية انعقادها وبين اليوم الثاني للانعقاد عندما حدثت فيه المفاجأة التي لم يتوقعها احد وإن كانت هي امنية الجميع من المحيط الى الخليج. وتمثلت المفاجأة بالعناق العروبي بين ولي العهد السعودي الامير عبد الله بن عبد العزيز ونائب رئيس مجلس قيادة الثورة العراقي عزة ابراهيم امام الجميع عمداً وفي لحظة ارتياح عفوية غائبة ومغيَّبة منذ يوم الخميس 2 اغسطس (آب) 1990. كما تمثلت المفاجأة بالتعهد العراقي الذي اطمأن له الشيخ صباح الاحمد فكانت مصافحة قد تقود لاحقاً الى عناق عراقي ـ كويتي فإلى وفاق فإلى مجاورة تبعث على الطمأنينة وعدم طمع احد بالآخر وخوف احد من الآخر. ومن المهم الاشارة الى ان العناق السعودي ـ العراقي كانت له مقدمات وتصريحات انتهت الى ان العناق المشار اليه كان مثل عناق آخر سبقه ونعني به العناق السعودي ـ الايراني. وكان الامير عبد الله هو ايضاً مهندس ذلك الانفراج الخليجي ـ الايراني.

ويبقى ان ما اوردناه ليس كل الدلائل، ولكنها الأهم عن هذه القمة التي كانت قمة «اعلان السلام العربي على اميركا واسرائيل» كما لم يُعلن بهذه الحنكة من قبل، وقمة «تصحيح العلاقة في الصف العربي» كما لم يحدث التصحيح بهذه الحكمة من قبل. ومن الطبيعي ما دامت هذه الانجازات تكبح رغبة الادارة الاميركية في الحرب على العراق وتحشر ارييل شارون في الزاوية ان يكون الرد عليها ما اقترفه شارون في اليوم الاول الذي تلا انعقاد القمة وبررته الادارة الاميركية دون وجه حق.

يبقى ايضاً اننا ونحن ننظر الى هذه القمة بهذه العين المبللة بدموع الحزن على ما جرى ويجري ممزوجة بدموع الفرح على ما نأمل حدوثه بعد الآن، نستحضر بيتين من الشعر يلخصان الواقع والمشاعر. الاول قاله قبل نصف قرن ابراهيم ناجي (وإذا إنحطَّ زمان لم تجد... عالياً ذا رفعة إلاَّ الألم). والثاني لسيد الشعراء ابو الطيب المتنبي (يُقضى على المرء في ايام محنته... حتى يرى حَسناً ما ليس بالحَسنِ).

... والحديث حول «قمة اعلان السلام على اميركا واسرائيل، وتصحيح العلاقة العربية» له تتمة... وحوله شؤون وشجون.