السؤال الملغوم: هل أنت مع قتل المدنيين؟

TT

من يملك عفة الملائكة أو صبر أيوب ليصبر على هول صبرا وشاتيلا؟ ومن يدعي ان بإمكانه كبح جنون الضحايا بعد الذي رأوه في مخيم جنين؟ مبعوث الامم المتحدة تيري رود لارسن قال: «انها فظاعة تفوق التصور» ومع ذلك، تريد أميركا، ان لا نرى في هذه الفظاعة ما يفوق اي تصور. فلتعلمنا أميركا، اذن، كيف نطلب من طفل فلسطيني يبحث عن ألعابه تحت الركام وينبش، بيديه الصغيرتين، لاخراج جثة أبيه وأمه من تحت الانقاض، ان يدين قتل مدني اسرائيلي وقح، يرفض له، حتى يتيماً ومكسوراً، حق السكن في خيمة، على أرضه.

عيون اطفال فلسطين تلزم، اخلاقياً، رفض الظلم، ورفض الانحياز لمدنيين اقوياء على حساب مدنيين ضعفاء. ولا عيب في الاعلان عن ان المدني العربي ليس أقل جدارة بالحياة من مدني اسرائيلي. فمن فم اسرائيل ندينها ومن صفحات توراتها ندينها، «العين بالعين، والسن بالسن» والمدني بالمدني. الموقف، على هذا النحو، لا يكون ثأرياً، انما «ظلم بالسوية عدل بالرعية». وكي يصبح إيقاف ما يسمى، زوراً وخداعاً، «العنف المتبادل» يتحتم ان يكون، فعلياً، عنفاً متبادلاً، ليصبح السلام حاجة الطرفين، لا مطلباً فلسطينياً وحسب، كما هو الحال والمآل.

يأتونك على حين غرة، ويباغتونك بالسؤال الملغوم إياه، إثر كل عملية استشهادية: «هل انت مع قتل المدنيين؟»، فتجيب في الحال: «لا»، فيقال لك: «اذن أدن الإرهاب!». فتصاب بالبهوت والإرباك. أمة الكلام تعجز عن الكلام. لا يمكن لعاقل ان يقول: «انا مع قتل المدنيين». ولكن من هم المدنيون الاسرائيليون؟ الجندي الاحتياطي خارج الخدمة مدني، والمرأة اليهودية الفرنسية او الروسية القادمة من وطنها لتغتصب بيتاً، وتشارك في مشروع تشريد وابادة شعب بأكمله مدنية، والطفل الذي يحقن بالحقد على العرب مدني. وكي لا نطيل اللائحة، فان الاغلبية الساحقة التي أيدت شارون بحماس لذبح الفلسطينيين في مجازر 29 مارس (آذار) هم من المدنيين. وفي الجهة المقابلة فإن حَمَلة الحجارة مدنيون، ومدنيون ايضاً هم المراهقون الاستشهاديون والفتيات المفخخات، والامهات المناضلات. وبالمعنى المجرد والخبيث للكلمة ـ على الطريقة الاميركية/الاسرائيلية ـ ليس للفلسطينيين جيش، والناس كلهم مدنيون. ولهذه الأسباب مجتمعة فإن الاسرائيلي، في نهاية المطاف، لا يقتل عساكر بثياب مرقطة، وانما عزّلا وعائلات تدافع عن حياتها وسقف بيتها. والكلام على المدنيين في معمعة من هذا الصنف، يستلزم رسم حدود، من الواضح ان الطرفين لا يعترفان ضمناً بها. ألا ترى اسرائيل ان كل جنين فلسطيني هو مشروع استشهادي؟ وهل يرى العربي في وجه الاسرائيلي، مطلق اسرائيلي، غير ملامح مغتصب ومصاص دماء؟

لفظة «مدني» مفخخة. كل الكلمات ملعونة ومحتالة ومراوغة، تتلوى كالافعى، وتنزلق من اليد كالزئبق. وفلسفة فيتغنشتين اللغوية قامت على عبارة واحدة، وهي ان «ليس للكلمة معنى انما لها استخدامات». وهذه النتيجة البسيطة كانت، بحقٍ، منعطفاً في مسار الابحاث اللغوية التي تلتفت الى دراسة المعنى. والعمل وفق نظرية هذا الفيلسوف اللغوي النمساوي، بإمكانه ان يحقق، عربياً، وضوحاً في الرؤيا، وقدرة على مواجهة المكر بمكر خيّر (وفق التعبير القرآني)، في معركة، من الواضح انها أبعد بمسافات من مرئيها العسكري.

ثمة عرب حضاريون، قد يتقززون من هذا التشريح الوحشي لكلمة «مدني»، ويرون ان المقاومة الفلسطينية عليها ان تبقى داخل حدود الضفة الغربية وغزة وان لا تتعرض لحياة «الابرياء». وهو خيار قد يلتزمه الفلسطينيون، انما ألن تطاردنا اميركا، ساعتئذٍ بتهمة ارهاب المستوطنين؟ وهل يجرؤ النفاق الدولي على الاعتراف بوضوح بأن قتل اسرائيلي على هذه الارض هو مقاومة مشروعة لمحتل؟ وهل ستملك الدول العربية حينها شجاعة إمداد الفلسطينيين بالأسلحة دون رعب وخوف من ان توصم بالارهاب، أم ستبقى على «اعتدالها»؟ وهو الأرجح، والأقرب الى المزاج السائد.

الدفاع عن النفس حق للذباب الذي وهب عيوناً مركبة، مدهشة، يرى من خلالها في كل اتجاه ويرصد المعتدي، وهو حق للنباتات اللاحمة التي تتصيد بإفرازاتها الحشرات بغية ابتلاعها، وحق لبعض الاسماك التي تبث، عند اقتراب الخصم منها، مادة ملونة تختفي في غماماتها. وإسقاط هذا الحق، هو فعل انتحار لكينونة المخلوق بشرياً كان او غير بشري.

كل ما في الدنيا يقوم على عنصري الترغيب والترهيب، وعلى سياسة العصا والجزرة. لماذا يراد لنا ان نسقط العصا ونتمسك بالجزرة؟ دور العصا، حقيقة ومجازاً، جوهري. وفي تراثنا ما يكفي لاستلهام العبر، ان من تعدد وظائف عصا النبي موسى، تحديداً، او مما كتبه الجاحظ عن العصا، عموماً، او ما سجله اسامة بن منقذ من قصص ومتع في «كتاب العصا». والتخلي عن العصا، يضيع علينا فرصة الاجابة على سؤال الكائن الاسطوري سفنكس الذي كان يقف على باب مدينة طيبة، ويهدد بافتراس من لا يفك احجيته التي حيَّر بها الأهالي: «ما الذي يمشي عند الصباح على أربع، وعند الظهر على اثنتين، وفي المساء على ثلاث؟». وحاول أوديب ان يخوض المغامرة ليخلص المدينة من طغيان سفنكس فقال له: «انه الانسان يدب صغيراً على اربع، ويمشي عند بلوغه على قدمين، ثم يستعين بعصا في سن الشيخوخة». فما كان من سفنكس حين سمع الجواب الصحيح الا ان بغت وصدم وشعر بأنه اصيب بالضربة القاضية ورمى بنفسه في لجج المحيط.

والارهاب أشبه في طبيعته بسفنكس، المفترس، الذي تقتله الردود الصائبة، ومع ذلك لا يبدو ان هناك نية حقيقية، في زمننا للتغلب على شر الوحش سفنكس. كأن يقال صراحة أيهما أشد خطراً وجنوناً، فلسطيني يفجر نفسه ام دولة تلف نفسها بحزام تفجير هي الارهابية؟! وأي الكارثتين أكبر، نسف دكان في حي أم تدمير المنطقة برمتها؟

اسرائيل تكتب سيناريو جرائمياً، على نطاق موسع جغرافياً، لم يخطر في بال المسكين هيتشكوك، ان بتكديس الاسلحة الفتاكة او بمراكمة ضغائن الدمار الشامل. وعلى سكان المعمورة، مسلمين ومسيحيين ويهودا، ان يعوا ذلك، لا ان يعمقوا جذور هذا المشروع المريض بهلاوسه وأوهامه، والذي يتجلى، مرحلياً، وجزئياً فقط، بجرائم شارون. والآتي ليس، تأكيداً، أرحم وإنما أظلم. فهل سنستقبل الطامة بعصا أم نكتفي بجزرة؟

[email protected]