وجه آخر من أوجه العولمة

TT

شغلت نتائج الدورة الأولى في انتخابات الرئاسة الفرنسية الناس في كل أرجاء الارض تقريبا، وخاصة بعد فوز السياسي اليميني المتطرف جان ـ ماري لوبن وسارعت القوى السياسية في اوربا بالتحذير من خطر الفاشية. أما بالنسبة للشرق الاوسط الذي يرسل افواجا من المهاجرين من الدول التي كانت لها علاقة بفرنسا الاستعمارية اثناء الاستعمار، مثل تونس والجزائر والمغرب والتي لها ـ حسب الاحصاءات المتداولة في الصحف ـ حوالي ستة ملايين مواطن صار اغلبهم فرنسيين بالتجنس، هذا الى جانب اعداد اخرى من بلاد عربية واسلامية يعيشون على الارض الفرنسية.

فرد الفعل ينبغي ان يكون أشد قلقا، لأن اليمين المتطرف يركز تطرفه على عداء واضح لأهل الشرق الأوسط. ومنذ فترة طويلة والمزارعون الفرنسيون يستقدمون العمالة الرخيصة من بلاد الشرق الاوسط اثناء مواسم حصاد العنب وغيره من المحاصيل ولكن هؤلاء القادمين لا يلبثون ان يستقروا ولا يغادرون. وبعض اصحاب الاراضي في جنوب فرنسا اعلن للصحفيين أنه انتخب لوبن لأن وجود هؤلاء الاجانب يزعجه، وقال قوله هذا وهو يجرع كأسا من النبيذ الذي حصد عنبه هؤلاء العمال. الحق ان كل اوربا تعاني من مشكلة الهجرة، دعك من اللجوء السياسي، ولعل الشرق الاوسط هو المنطقة التي يندفع ابناؤها الى هذه البلاد طلبا للعيش الافضل والامان السياسي اكثر من غيرها من المناطق. والاسباب واضحة على أية حال. ومع أن هؤلاء المهاجرين يقومون بأعمال شاقة راضين الا ان انتهاء الموسم يوقعهم في البطالة وما يترتب عليها من مشاكل. وما أسرع ما يتنكر لهم هؤلاء الذين استقدموهم من بلادهم، بل ويعلنون تأففهم منهم ورغبتهم الجامحة في التخلص منهم. وعلى الجانب الآخر قد يضجر العمال الفرنسيون ومنظماتهم من هذه العمالة الاجنبية ويرجعون اليها نسب البطالة حينما تعلو بينهم. ويشاركون هم ايضا في حملة الكراهية التي يشنها عليهم مستخدموهم السابقون. وهكذا تستطيع ان تجد مقاومة للاجانب في غالبية البلاد الاوربية وقصص السفن التائهة في البحار والتي ترفض الموانئ الاوربية رسوها بمن فيها معروفة، كما أن اغلب الحكومات الاوربية تحاول ان تسن قوانين الحماية ضد الهجرات الوافدة. ومرض كراهية الاجنبي مرض معروف منذ القدم، ولكن بعد هذا التقدم الثقافي وتحول التمييز العنصري الى فعل مستهجن لم تزل قطاعات كبيرة من الشعوب الاوربية تعامل الاجنبي كشخص أقل منزلة، وفي احسن التعبير ـ مختلف الثقافة ـ أي انه قادم من ثقافة متخلفة قد تؤثر على الوضع الحضاري كله في المجتمع. وكان للوبن هدفان في حملته الانتخابية: وقف هذه الهجرة وربما طرد هؤلاء المهاجرين، وثانيا الخروج من الاتحاد الاوربي. والهدفان يتحركان من فكرة الوطنية والحس القومي الذي كان حجر الزاوية في الفكر النازي والفاشي بشكل عام. وللرجل تاريخ طويل في الحرب الاستعمارية الفرنسية وخاصة ضد الثورة الجزائرية في خمسينات القرن العشرين. وهي امور لا يخفيها بل لعله يتباهى بها. والواقع ان خوف الاحزاب الاوربية من هذه النتيجة في محله الى حد كبير ذلك ان لوبن كسب تسع ولايات من اثنتين وعشرين ولاية تتشكل منها قوائم انتخابات الرئاسة الفرنسية. كما أن هناك ميلا يكاد يكون عاما لرفض المهاجرين في كل دول اوربا تقريبا. كذلك الامر بالنسبة للاتحاد الاوربي، فبريطانيا الى اليوم ما زالت تنتظر تفهم الرأي العام البريطاني لفكرة الوحدة الاوربية بما في ذلك تقبل الغاء عملتها الوطنية واستبدالها باليورو الاوربي. ولم تجرؤ الحكومة على اجراء الاستفتاء المتوقع حتى الآن، كما أن حزب المحافظين المعارض القوي يرفض الفكرة اساسا. اما بالنسبة للولايات المتحدة فالامر لا يكاد يختلف، ان لم يزد في الواقع، مع انها بلد هجرة اصلا، ولا شك ان اليمين المتطرف فيها استخدم حادثة الحادي عشر من سبتمبر لينفخ في بوق الوطنية الامريكية، وهي وطنية لها طابع خاص، فهي وطنية بالاتفاق اكثر منها بالعرق او التاريخ المشترك، او حتى اللغة احيانا. ولم ينحصر هذا الحس «الوطني» في الانفعالات العاطفية التي شهدناها بعد هذه الحوادث بل انتقل الى الفعل السياسي نفسه حتى اوشك ان يكون تحديا امريكيا للعالم كله بما في ذلك الاتحاد الاوربي. وما زال هذا الموقف «الوطني» الامريكي يرتع في كل المجالات وآخرها هو تصميم الولايات المتحدة على فصل موظف في الامم المتحدة يدير جهاز الرقابة على الاسلحة الكيماوية، وبالصدفة كان هذا المدير من اصل عربي لبناني يحمل الجنسية البرازيلية، وبالفعل استخدمت الادارة الامريكية كل ثقلها للتصويت ضده وقد نجحت في ذلك بأقل من نصف الاعضاء وامتناع عدد كبير من الدول عن التصويت. كل هذه التصرفات، سواء في اوربا او في امريكا، متناقضة مع حركة العولمة الفكرية او قل الثقافية التي راحت تستمد من وحدة السوق العالمية، وانهيار الحدود الجغرافية والسياسية بين الدول، وحدة في الفكر تقوم على تساوي الشعوب واحترام الثقافات وبروز الكفاءة على العرق او الانتماءات الاخرى، مما اوشك بالفعل ان ينعش الحياة الثقافية في اتجاهات اكثر انسانية. حقا ان للعولمة اعراضها الجانبية مثل نوستالجيا العودة الى القومية والاحتماء بثقافتها او قل هويتها، ومع ان هذه احاسيس من الممكن ان تكون طبيعية على الرغم مما فيها من جنوح الى الماضي، وربما كان فيها شيء من التراجع، الا انها استخدمت سياسيا استخدامات سيئة. انظر مثلا الى حجم الانفعالات العرقية الذي تنشره اسرائيل باعتبارها دولة لليهود اساسا لا تقوم على الدين فحسب بل على عرقية عنصرية لا تخفيها على الرغم من استخدام الحجج المختلفة الاخرى. وها هو ذا العالم يشهد نوعا من السلوك العنصري شديد البغض للعنصر العربي وصل الى حد الابادة الكاملة. ومع ذلك فانك تجد من يبرر هذا الفعل الرهيب بحجة الدفاع عن النفس مع ان الدولة الاسرائيلية نفسها هي عدوان متجسد على الحق الفلسطيني في ارضه. ان هذا اليمين الفاشي المنتعش له تجلياته المختلفة وكل حسب ظروفه. فهو في امريكا يلتصق بما يسمى بالمصالح الامريكية، التي يجب بمقتضى الوطنية الامريكية، أن يدافع عن هذه المصالح مهما تكن النتائج، ومهما ترتب على ذلك من افعال بالغة الضرر لهذا الشعب او ذاك. ونفس الشيء تجده في التيارات اليمينية المتطرفة في اوربا، وقد شاهدنا جانبا منها في الاتحاد السوفياتي السابق وفي النمسا وفي هولندا وفي السويد وفي ايطاليا، وها نحن نرى رمزها البالغ الوضوح في فرنسا. وهنا أليس من حقنا ان نسأل: هل العالم ينحدر بالفعل الى التطرف في كل مكان؟ والمقصود بالتطرف هنا نحو اليمين. نحو المعاني العنصرية والتفاخرات القومية او الثقافية، او قل الحضارية كما فعل رئيس الوزراء الايطالي بيرلسكوني او كما يصرح كثيرون في الولايات المتحدة او في اسرائيل حيث ينظر المتطرفون الى الفلسطينيين والعرب على أنهم اقرب الى الحيوانات وفي الاجتياحات التي يقومون بها لا يمكن ان يصلوا الى هذا الحد من الدمار والقسوة الا اذا كانوا يشعرون انهم يتعاملون مع كائنات غير بشرية.

الحق ان ما يحدث الآن ليس مجرد جنوح نحو اليمين، وقد لا يكون رد فعل على تيارات العولمة بمفاهيمها الثقافية الجديدة، بل هو انقلاب ثقافي اساسي على كل الانجازات الفكرية التي تمت بصفة خاصة في النصف الثاني من القرن العشرين والتي تجسدت فيها حقوق الانسان وأحلام الحرية والمساواة. ومع ان الحكومات ـ في أي بقعة في العالم، بما في ذلك الدول الاوربية المتقدمة، لم تكن متجاوبة تماما مع هذه المفاهيم، وكثيرا ما كانت تقاوم هذا التثقيف الجديد، وقد رأينا ذلك في الانقلابات العسكرية الفاشية في أمريكا اللاتينية وفي الاجتياحات السوفياتية على بعض دول اوربا الشرقية. الا أن الاوضاع كانت تتحسن يوما وراء يوم. وقد اصبح من المسلمات مبدأ المساواة والاخاء الانساني وحق الناس في الحرية والاختلاف ومسؤولية الدولة عن مساعدة بنيها بتوفير العمل لهم والتعليم والرعاية الصحية. وما اكثر الكتب التي ينشرها مفكرون يمينيون يفلسفون تلك التيارات المتطرفة الجديدة، وربما كانت اقوى حججهم في تقبل التمييز العنصري او الديني او الثقافي بشكل عام هو نوع من الواقعية المزعومة، واللااخلاقية في الواقع، التي تعتبر الطبيعة الانسانية مبنية اساسا على التمايز والتفوق وامتيازات القوة بأشكالها المختلفة، وهو أمر تجده في الكتب الاقتصادية والاجتماعية بل وفي تفسير التاريخ.

هناك انقلاب فكري على كل تلك المنجزات ولا استبعد ان الوجود الاسرائيلي القلق من حيث الشرعية واشتمال الفكرة الصهيونية على عنصرية يهودية وعدائية، مسؤول مع عناصر اخرى عن تفشي هذا الانقلاب الذي يحتاج في الواقع الى تدبيرات كثيرة لأنه معاد بطبيعته للأماني البشرية ولا يمكن ان ينشأ عن مجرد رد فعل موضوعي على الحوادث الجارية. لا شك ان مؤشر انتخاب لوبن بالغ الدلالة على الانزلاقات التي حدثت في الثقافة العالمية المعاصرة، وأنه بالفعل يحتاج الى ترابط القوى الشعبية ذات الطابع الديمقراطي والانساني ليس في القارة الاوربية فحسب، بل في الولايات المتحدة بنفس الدرجة وفي كل انحاء العالم بطبيعة الحال.