ظلال «حرب باردة» في الخارجية الإيرانية

TT

بعد اقدام وزير الخارجية الايراني كمال خرازي على عزل ابن اخيه وابرز مساعديه واكثرهم اثارة للجدل في الماكينة الديبلوماسية الايرانية (سيد صادق خرازي) ثمة من يتساءل في طهران فيما اذا كان هذا القرار يأتي بمثابة اطاحة برأس جديد من رؤوس الاصلاحيين المقربين من الرئيس محمد خاتمي ممن يتجرأون اكثر من غيرهم على رفع راية ضرورة الاصلاح والتغيير في المؤسسة الحاكمة عالياً ودون مواربة! بعد كرباسجي وعبد الله نوري وعطاء الله مهاجراني جاء دور صادق خرازي «سلطان» الخارجية الذي ظل يرمي بظلاله على المؤسسة الديبلوماسية الايرانية منذ عودته من مهمته الموكلة اليه في نيويورك ملتحقاً بفريق عمل الرئيس محمد خاتمي والذي اشرف بجدارة على انجاح المؤتمر الاسلامي في طهران والذي كان بمثابة القاطرة التي حملت الرئيس محمد خاتمي الى العالم الخارجي.

لا أحد يعرف بالضبط حتى اللحظة الأسباب الحقيقية والذرائع الكافية التي حملت الوزير كمال خرازي على ان يتخذ مثل هذا القرار المفاجأة والذي شكل ما يشبه الصدمة لمطبخ صناعة الديبلوماسية الايراني المصغر.

وقد ظلت التكهنات حول حقيقة الخلاف الذي دفع بالعم ليعزل ابن اخيه بقرار مفاجئ تتراوح بين حقيقة دور الرجل المعزول بمثابة «وزير الظل» كما يصفه البعض بما كان يثير حفيظة عمه عن طريق الصدمات الخفيفة لكن المتواصلة التي تسببها له، وبين موقف الرجل الجسور تجاه ضرورة تجاوز العديد من الشكليات والموانع البروتوكولية والتقليدية فيما يخص ضرورة تعزيز الروابط مع العالم العربي وبشكل اكثر وضوحاً تجاه مصر والقضية المركزية فلسطين، وبين الموقف من الحوار المحظور رسمياً لكنه المفتوح عملياً على مستوى النخب ومنذ مدة مع زعيمة العالم الغربي والمتصدرة لكرسي الرئاسة العالمي اي الولايات المتحدة الاميركية. والمعروف عن الرجل ـ اي صادق خرازي ـ بأنه الأكثر عملياً في استنباط الآليات والقنوات الموصلة بين طهران وواشنطن بعيداً عن الأضواء الكاشفة الديبلوماسية منها والسياسية، معتمداً طريق البحث العلمي وحوارات الطاولة المستديرة التي لا ينفك عن دعوة المثقفين والنخب الاميركية اليها وبعض «المتأمركين» ايضاً من العالم العربي الجار حسب بعض المفسرين هنا انطلاقاً من موقعه المتميز والممتاز كمساعد لوزير الخارجية لشؤون البحث العلمي وابن اخيه ايضاً.

لقد انكر هو شخصياً ان تكون له اية علاقة بما بات يعرف «بقبرص غيت» التي كتبت عنها الصحافة الايرانية المحلية حول حوار ما من وراء الستار أو تحت الطاولة مع الاميركيين. والمقربون منه يؤكدون ان عمه اراد بالحاح في الآونة الأخيرة، ابعاده عن واجهة الديبلوماسية «الطهرانية» من خلال ايفاده سفيراً لبلاده في باريس أو برلين، لكنه رفض بقوة، وكان ذلك أحد الأسباب المباشرة التي ادت الى استعجال الاطاحة به. والذين يعرفون بعض خصائص «حرب الظلال» الايرانية الجارية منذ مدة بين منهجي المحافظين والاصلاحيين في البلاد يؤكدون بأن ما اصاب صادق خرازي هو بالضبط ما اصاب عطاء الله مهاجراني وزير الثقافة السابق، اي عندما بات الرجل بمثابة الظل الذي يلاحق رئيسه بالعمل، مطالباً اياه بضرورة التغيير والتحول الجسور في العملية الديبلوماسية انطلاقاً من الثقل الجماهيري الذي توفره اللحظة التاريخية وليس اعتماداً على النظام التقليدي المتبع تاريخياً، الامر الذي حول الرجلين الى ثقل كبير ينوء به صاحباهما، فاضطر الأول الى اقالة وزيره فيما اضطر الثاني الى اقالة مساعده وابن اخيه رغم محبة كل منهما لصاحبه وربما اقتناعهما بافكاره ولكن للسلطة والحكم قواعدهما الديمقراطية وغير الديمقراطية.

«الحرب الباردة» بن المحافظين والاصلاحيين في البلاد ربما تعيش ايامها أو اسابيعها الاخيرة في البلاد... على الأقل هذا ما نسمعه من اعلام المحافظين في هذه الايام. والجميع بحاجة ماسة الى كلمة الوحدة الوطنية الجامعة والوفاق السياسي والأهلي المبرم لا سيما في ظل التهديدات الاميركية الجدية لايران ولغير ايران في المنطقة.

وقضية فلسطين تبقى الأهم والاقوى وهي الشغل الشاغل لمطبخ صناعة القرار الايراني احب من احب من الاصلاحيين وابى من ابى، ورغب من رغب من البرلمانيين وكره من كره منهم، وانتصر لها من انتصر من النخب الليبرالية المحلية او انتصر لغيرها! ذلك لأن منطق الاشياء في العالم اي منطق السنن الكونية يظل دائماً اقوى من منطق الذات والذهنيات.

وهنا ثمة من يعتقد بأن كمال خرازي ربما رأى ان هذه اللحظة التاريخية هي الأكثر مناسبة للتخلص من الرأس الثاني في جسم وزارته الحساسة من دون ضجة قبل ان تتجاوزه الاحداث والمعادلات الاقليمية والدولية.

لكن المشكلة تبقى في كون ان صادق خرازي حتى لو عزل نهائياً ـ باعتبار ان جهوداً يبذلها اصدقاء مشتركون لاعادته الى «سلطنته» ـ ستبقى ظلاله طاغية على عمل المعهد ومعاونية البحث العلمي السياسية والدولية إلى نهاية عهد الرئيس محمد خاتمي، تماماً كما هي الحال مع وزير الثقافة السابق عطاء الله مهاجراني الذي لا تزال ظلاله ترمي بنفسها على وزارة الثقافة رغم مغادرته لها لأكثر من عام ونصف.

وبالمناسبة فإن كلا الرجلين يتميزان بالاعتدال والوسطية في صفوف الاصلاحيين وبارتباطهما العميق بكل خيوط وخطوط النظام الحاكم وخيوط وخطوط المجتمع المدني في آن واحد، وقربهما المتساوي الابعاد الى حد كبير من الثلاثي الاهم من رموز الحكم اي قائد الثورة ورئيس الجمهورية ورئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام هاشمي رفسنجاني، واخيراً ربما وليس اخراً موقفهما المتميز من ضرورة احداث التحول الجذري المطلوب تجاه العالم العربي واتخاذ افضل المواقف واقربها من جيران ايران العرب الجنوبيين في مجلس التعاون والانتصار لفلسطين والزعيم ياسر عرفات.

فهل كان صادق خرازي ضحية تلك الشجاعة وهذه المواقف المتميزة والممتازة؟ الجواب لدى كمال خرازي الذي ينتظر العديد من اصدقائه عودته من رحلة آسيا الوسطى ليثنوه عن قراره.