الدولة الوحيدة الخارجة على القانون تُبَهْدِل الأمم المتحدة

TT

لم تطبق إسرائيل منذ نشأتها ولم تُولِ أي اهتمام لمقررات مجلس الأمن وتوصيات الجمعية العامة التي تعنيها وهي تُعَدّ بالعشرات، باستثناء قرار التقسيم رقم 181 الذي تفضل عليها بشرعية اغتصاب جزء من أرض فلسطين لتقيم عليه الدولة اليهودية.

وحتى هذا القرار لم تحترمه بكامله، إذ بادرت في التّوِّ إلى اقتحام الأراضي التي حددها القرار للدولة العربية الفلسطينية، وبسطت عليها احتلالها، وتوسَّعتْ فيها، وضمَّتها إليها في نهاية حرب 1948.

ومنذ هذه الحرب التي كانت أولى حروبها الخمس ضد العرب، وهي تستهزئ وتستخفّ طيلة نصف قرن بجميع ما صدر من مقررات وتوصيات الشجب والإدانة عن الأمم المتحدة لتصرفاتها، وتتحدى المنتظم الدولي بخرق قوانينه، بما أصبح معه معيار خرق القوانين والشرعية الدولية أحد مُحدِّدات هُويتها.

إن إسرائيل تشكّل بهذا التصرف المَشين شذوذاً صارخاً عن سيرة وسلوك سائر الدول الأعضاء المتحضّرة التي تعي أن انخراطها في المنظمة يلقي عليها مسؤوليات وواجبات يأتي في طليعتها الانقياد التلقائي لإرادة الشرعية الدولية، وسمو قوة القوانين الدولية على قوة القوانين الوطنية، ولا يخطر ببالها أن تتعارض قرارات حكوماتها وبرلماناتها مع مقررات المنظمة الأممية.

وهذا عكس ما مارسته إسرائيل بتحدٍّ ماكر عندما عارضت القرارات الأممية ـ على سبيل المثال ـ بقرارات «الكنيست»، الذي قضى بضم إسرائيل للقدس ومنطقة الجولان السوري، وعندما قامت بنقل عاصمتها من تل أبيب إلى القدس المحتلة، وعندما لم تطبق قرارات مجلس الأمن التي تفرض عليها الانسحاب من الأراضي العربية إلى حدود ما قبل رابع يونيه 1967، وحينما لم تهتم بالقرارات التي صدرت عن الأمم المتحدة لحل مشكلة الصراع العربي الإسرائيلي.

وحتى عندما أرغمتها مقاومة شعب فلسطين البطل لاحتلالها على الالتفات إلى منظمة التحرير الفلسطينية بوصفها الممثل الشرعي الوحيد لشعب فلسطين والدخول مع زعمائها في المفاوضات المارطونية طيلة عشر سنوات، خططت وراهنت على حمل السلطة الفلسطينية على قبول حلٍّ منتقَص لمشكل الاحتلال، وصاغته في شكل صفقة مغشوشة، لها فيها الغُنْم، ولفلسطين الغُرْم، دُعيت باسم «عملية السلام» وليست السلامَ نفسَه، أي مجرد عملية يُطبخ فيها حل يُعَدُّ ويُقَدُّ ويفصَّل على قامة إسرائيل التوسعية، ولا تستحق فيه فلسطين المقزَّمة أكثر من حكم ذاتي محدود الصلاحيات على أقل من نصف الأراضي الفلسطينية المحتلة المطلوب من إسرائيل الانسحابُ منها بالتّمام والكمال.

هذه العملية التي يُمسخ فيها السلام مسخاً شنيعاً هي التي استفردت الولاياتُ المتحدة برعايتها والإشرافِ عليها وممارسةِ الضغوط على فلسطين لقبولها. وهي عملية كانت تصنعها حكومات إسرائيل المتعاقبة ـ باتفاق مع الولايات المتحدة ـ لتُبطِل بها قرارات الأمم المتحدة وتُفرِغها من محتوياتها. وهي التي تبنَّى أطروحاتها في اجتماع كامب ديفيد الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون، ووجد فيها الرئيس عرفات نفسَه يصارع أطماع إسرائيل ذات الرأسين: كلينتون، وإيهود باراك. وكانت مؤامرة لنسف قرارات الأمم المتحدة وتدميرها. ورفضها الرئيس عرفات بشجاعة وإصرار. وبذلك أصبح الرئيس كلينتون ـ المفاوض باسم بلاده واسم إسرائيل معا ـ في حالة إحباط. فقد كان يعتبر أنه على قاب قوسين أو أدنى لتقديم هدية السلام المغشوش إلى إسرائيل قبل نهاية ولايته، ليدين له الشعب اليهودي بهذا العطاء السخي، ويكتب له التاريخ أنه أرسى قواعد إسرائيل على أسس متينة مضمونة الاستمرار ما دام قد ظفر لها بشرعية الفلسطينيين أصحاب الحق.

وظلت هذه المطامع التوسعية تختلج في صدور أعضاء حكومات إسرائيل باختلاف ألوانهم السياسية، لكنهم كانوا يغلّفونها بالتظاهر بالميل إلى السلام الذي كانوا يعطونه مفهوما خاصا. أما حكومة شارون فقد أسقطت عن وجهها كل قناع عندما اغتالت في عملية ممنهَجة ـ ضمن ما اغتالته من أبناء فلسطين ـ كلَّ أمل في الوصول إلى تسوية لحل قضية فلسطين، وعندما دمرت عملية السلام مثلما دمرت البنيات التحتية لدولة فلسطين المنتظَرة، وعندما أحرقت حظوظ السلام مثلما أحرقت الأرض وأشجار الزيتون في الأراضي الفلسطينية التي استعادها الحكم الذاتي، ونحرتها وأقبرتها مثلما نحرت أطفال ونساء وشيوخ فلسطين في مجزرة جنين، وحاصرتها وطوقتها بالقوة مثلما حاصرت عرفات في سجن مقره برام الله، واجتاحتها اجتياحها التخريبي المدمر للأراضي الفلسطينية التي أصبحت أثراً بعد عين، وعندما قتلت بجميع ذلك السلام الحق ودفنته في المقابر الجماعية التي تضيق بها أراضي فلسطين على سعتها.

كل شيء قتله ودمره وخربه واغتاله الجنرال الدموي شارون إلا شيئا واحدا عجز عنه وضاق به ذرعا: هو تدمير صمود شعب فلسطين في وجه العدوان، مما اضطُرّ معه إلى الرضوخ والإذعان ودوام الحال من المحال.

يشكل شذوذ إسرائيل وخاصة في عهد شارون ظاهرة تفرض على التحليل السياسي والبحث العلمي رصد وتعميقَ دراستها واستخلاصَ حقيقتها وطبيعتها. وهذا دور المفكرين والخبراء والباحثين في الظواهر الشاذة التي تظهر في المجتمعات العالمية بين الفينة والأخرى. وإن بروز ظاهرة «لوبي» بفرنسا تستأثر اليوم باهتمام الباحثين، لكن ظاهرة الشارونية في إسرائيل أجدر بالعناية، لأنها تشكل مذهبية متكاملة هي مزيج (أو كوكطيل) من النازية، والفاشية، والعنصرية، والتطرف الديني الخرافي، ونزعة احتقار النظام الدولي، والتمرد على قيمه وأخلاقياته، وبهدلة أداة عمله.

والمحطات التي مر بها قطار شارون منذ وصوله إلى الحكم وإلى اليوم، وخطبُه وبرامجُه، ووعودُه التي منّى بها شعبه وعجز عن تحقيقها، ووقفاتُه «الدُّونكيشوطية» في وجه العالم، وتحديه للمقررات الدولية، واستبلادُه لقادة البيت الأبيض، وأَكْلُ دماغهم، ورهانُه على استغفالهم، وتقمُّصُه صورة القطب الأعظم الذي زحزح الولايات المتحدة عن موقعها لقيادة العالم وسطا على عرشها، وما ارتكبه من آثام الاحتقار والإهانة لمبعوثي الأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، ووزراء الدول العظمى. وأخيراً بهدلته وإهانته للأمم المتحدة في شخص أمينها العام الطيب الوديع، كل هذا وغيره لا بد من تعميق البحث فيه لاستكمال اكتشاف حقيقة ظاهرة الشارونية الجديدة.

لقد كان قرار وأْد بعثة تقصي الحقائق عن مجزرة جنين على يد والدها كوفي عنان مزيجا من مسرحية تفاعل فيها الهزلي والمأساوي. كانت مضحكة ومفجعة في آن. في البداية كان المطلوب أن يوجه مجلس الأمن بعثة تحقيق كاملة الصلاحية لمعرفة ما جرى في جنين وتخويلها السلطة اللازمة، لكن إسرائيل لجأت إلى حماية الولايات المتحدة، فتحولت البعثة بقدرة القطب الأعظم الأوحد إلى مجرد لجنة للتقصي، عديمة الاختصاص، فاقدة السلطة، يوجهها الأمين العام لتعود إليه بالمعلومات بقدر ما يتاح لها الاطلاع عليها دون أن يترتب عليها شيء، سوى فضح إسرائيل عند الاقتضاء. ومع ذلك رفضت إسرائيل هذه اللجنة مقصوصة الجناح، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك فتدخلت في تشكيلها، واعترضت على عضوية واحد منها. ورضخ الأمين العام في النهاية للدَّلاَل الإسرائيلي، وعدَّل تركيب اللجنة.

ومع ذلك اشتطّت إسرائيل في تنويع شروطها وفرضها، ولم يبق لها إلا أن تشترط أن تتولى بنفسها تحرير تقرير اللجنة لتعلن فيه براءتها.

تُرى أكان ضروريا استئذان إسرائيل لإيفاد اللجنة وبلدةُ جنين فلسطينيةٌ تابعةٌ للسلطة الفلسطينية؟ رغم كل ذلك لم يجد الأمين العام أمامه للخروج من «المأزق» الذي أوقع نفسه فيه إلا أن يتخذ قراره بإلغاء اللجنة وكم من حاجة قضيناها بتركها!.

الأمين العام الطيب الوديع قَنِع من الغنيمة بالإياب، وتحمَّل اللطمة بصبر واحتساب. وربما لم يكن لغيره لو وُجِد في منصبه إلا خيار وحيد هو استقالته لإنقاذ شرفه بعد عجزه عن إنقاذ شرف المنظمة التي مرغت إسرائيلُ ببرودة سمعَتها وهيبَتها في التراب.

ربما تمثل الأمين العام الفاضل بالحكمة القائلة:

إذا نطق السفيهُ فلا تُجبْه وخيرٌ من إجابته السكوتُ