فرنسا على الطريق نحو الجمهورية السادسة

TT

بعيداً عن أن يكون جاك شيراك من عيار الجنرال دوغول، فقد رافق الرئيسي الفرنسي السابق/ الجديد الى ساحة الجمهورية في باريز مساء الأحد 5 مايو، حماس استثنائي لحشود بشرية فرحة ومتراصة يحملها شعور بإنقاذ الجمهورية من مخالب الظلامية. غير ان شيراك، وهو يستحم بين امواج شبيبة فرنسا التي خرجت للاحتفال بانتصارها، كان يدرك تماماً أنه ما زال في حاجة الى اصواتها، وقد قال لها ذلك مباشرة، في الاستحقاق الحقيقي الذي ينتظره الجميع بعد شهر من الآن، كما كان يدرك ان الـ 82 في المائة من اصوات الفرنسيين، حتى وإن وضعت قبالة اسمه... ليست له ولا لتنظيمه السياسي، هي للأمة وللقيم التي تختزلها في عقول افرادها، انها ضد يمين متطرف لن يؤدي نجاحه فقط، الى احداث شروخ مجتمعية عميقة، بل، وايضاً، الى اغراق كل اوروبا في لعبة دومينو، لا احد بإمكانه التنبؤ باسقاطاتها، لا على المستوى القاري ولا على المستوى الدولي، ومن هنا لم يخطئ كثيرا من قارن في اوساط الاعلام الفرنسي بين احداث 11 سبتمبر واحتمال ان يفوز لوبن في الانتخابات الرئاسية الفرنسية.

لكن هل هَزَمَتْ فرنسا يمينها المتطرف فعلا؟

لقد ارتبطت ظاهرة اليمين المتطرف في اوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية بالاوضاع الاقتصادية في البلدان المعنية، اذ مع كل تدهور لهذه الاوضاع تتحرك التيارات الآيديولوجية والسياسية، الهامشية عادة، في اتجاه العاطلين والمقصيين في مجتمعاتهم، راكبة المشاعر الوطنية و «الغريب» و«ثقافته» في هجمتها بهدف تحقيق طموحاتها. غير أن ظاهرة اليمين المتطرف هاته اخذت لها ابعاداً اضافية ببروز تيارات مناهضة لتراجع «الوطني» لفائدة «القاري» ولظاهرة العولمة واسقاطاتها، مع ما يرافق ذلك من فراغ آيديولوجي وانمحاء للحدود بين الاحزاب العاملة على الساحات المختلفة، مما ادى الى تنامي ظاهرة العزوف عن هذه الاحزاب وعن المشاركة في الانتخابات. ويتراوح متوسط مقاطعة الانتخابات في اوروبا خلال السنوات الاخيرة بين 35 و 37 في المائة، ليشكل المقاطعون بذلك أكبر «تنظيم سياسي»... يتحول الى مرتع خصب لكل انواع التأطيرات السياسية، بما فيها اليمين المتطرف.

وقد كانت النمسا نقطة الانزلاق الأولى نحو اليمين بالنجاح الذي حققه حزب جورج هايدر والذي ادى الى ابعاد الاشتراكيين الديمقراطيين عن الحكم وظهور توليفة حكومة اليمين ـ الوسط. وسواء في النمسا، الدنمارك، النرويج، ايطاليا، البرتغال، بلجيكا أو هولندة، فإن خطاب حملات أحزاب اليمين المتطرف تتمحور حول معاداة الأجانب ومعارضة الحدود المفتوحة بين الدول الأوروبية ومسائل الأمن، واحياناً تضاف الى هذا الكشكول المقيت معاداة الاسلام، كما هو الشأن بالنسبة لـ «فورتوين» في هولندة الذي حصد 35% من الأصوات في مدينة روتردام. كما ويستعد للمساهمة في صياغة التوليفات الحكومية في هولندة بعد استحقاق 15 مايو الحالي. ولا يختلف الأمر كثيرا في بلجيكا، حيث حصل تحالف فون هكه، اليميني المتطرف، على 9.9 في المائة من الاصوات المعبر عنها في الاستحقاقات الانتخابية المحلية الاخيرة، كما انه حصد 33% من الأصوات في مدينة انفرس الشاطئية، حيث يتمركز رأسمال يهودي قوي، وفاعل، كما ولم تسلم المانيا الاتحادية من هذه الظاهرة، ففي ولاية هامبورج، خلال الخريف الماضي انتزع حزب يميني جديد، حزب شيل، وبعد تأسيسه بشهور معدودة، من بين انياب الأسد.

20 في المائة من الأصوات للوهلة الأولى، كما ان نسبة العازفين عن التصويت في انتخابات الولايات الالمانية، منذ 1999 الى غاية شهر ابريل الماضي، بلغت في المتوسط حوالي 41 في المائة.. ومعنى هذا ان الاحزاب التقليدية وخطابها لم يعودا قادرين على استقطاب المواطن.

لكن اين تكمن خصوصية الحالة الفرنسية، وهل يشكل الفوز الساحق لتحالف اطراف المجتمع المدني ضربة قاضية على اليمين المتطرف؟

نزل خبر اقصاء جوسبان من السباق الى قصر الاليزي كالصاعقة، لكنه لم يكن الوحيد الذي اهتزت من تحت اقدامه الأرض والارقام تحصر سباق الـ 100 متر الاخيرة بين خصمه شيراك ولوبن الذي اعتبره جوسبان دائما... رقماً مهملاً...

وقد كانت الصدمة اعنف حين قالت الارقام ان جوسبان، الذي تصرف ديغوليا، باتخاذه لقرار الاعتزال، ذهب ضحية اقل من 200 الف صوت.. غير ان المقارنة تجوز مع فارق ان ديغول رغب في نصر ساحق في استفتاء عام 1969. لكن الأمر بالنسبة لشيراك لا يقل دراماتيكية، وهذا برغم الاجواء التي حملت احيانا بعضا من روائح ثورة 68 الطلابية.

فالجميع يعرف ان التفاف اليمين والوسط واليسار، بكل تشكيلاته، حوله في معركته ضد لوبن جاء عن اقتناع بأن فوز الاخير كان سيعني اغراق فرنسا في فوضى عارمة، مع اسقاطات خطيرة العواقب على الانتخابات التشريعية المرتقبة.. لهذا امتطى الجميع عربة يقودها رجل ليس له من رصيد غير ذلك الرقم الذي حصل عليه في الدورة الأولى (حوالي 20%).. لكن الدراماتيكية تتصاعد... لأنه بعد شهر سيتحدد من سيكون الوزير الأول الذي يجب على شيراك التعايش معه... وقد يكون هذا الاخير مستحيل الفبركة بدون يمين متطرف، اي بدون الجبهة الوطنية بثلاثيتها «العمل، العائلة، الوطن»، تماما كما كان الأمر على عهد الجنرال بيتان، ذلك ان المعادلات ستظل مؤرقة له ولطاقمه الاستشاري ولكل الطبقة السياسية الفرنسية الى حين ظهور الانتخابات التشريعية وربما لفترة اطول بعدها.

وتختزل هذه المعادلات في أربعة:

1 ـ أن يفرز الاستحقاق للجمعية الوطنية اغلبية من اوساط اليمين والوسط، وقد عمل شيراك، مستغلا ظاهرة لوبن، على فرض ان يكون لكل تشكيلات اليمين والوسط مرشح مشترك في الـ 577 دائرة. وفي حالة تحقق ذلك فإن مهام السيد شيراك ستكون أسهل، لكنه سيواجه معارضة اشتراكية اقوى وأشرس.

2 ـ ان تأتي الأغلبية يسارية، وهذا ما يعني استمرار التعايش الذي يترجم عمليا الى عرقلة وضبابية وتعميق للأزمة المؤسساتية للجمهورية الخامسة، مما يكسب اليمين المتطرف شعبية اكبر. ومن هذا المنطلق قد يندلع الجدل من جديد حول اجراء تعديل دستوري، خاصة من بين اوساط اليسار، ينهي عهد الجمهورية الخامسة ويعطي فرنسا جمهوريتها السادسة على نمط ما هو موجود في بعض دول اوروبا الشمالية والمانيا.

3 ـ تشكيل اغلبية من الحزب الاشتراكي وأحد المكونات الثلاثة لتيار اليمين ـ الوسط. وهذا احتمال ضعيف يؤدي حصوله الى بلقنة اكثر لليسار ويجعل الحياة بالنسبة للحزب الاشتراكي أكثر صعوبة ومرارة.

4 ـ في حالة عدم حصول تكتل اليمين والوسط على الأغلبية الضرورية والكافية لتشكيل الحكومة الجديدة، قد يخضع هذا التكتل لاغراء تشكيل ائتلاف مع فريق برلماني للجبهة الوطنية، علما بأن لوبن لن يرشح نفسه، ذلك ان الدراسات التي اجريت، اعتمادا على الرقم الذي حصل عليه لوبن في الدورة الأولى وعلى الستة ملايين التي منحته اصواتها في الدورة الثانية ـ وليس هناك لحد الآن ما يدل على عدم استقرار هذه القاعدة الانتخابية في الزمن المنظور ـ تجعل من المحتمل ان ينجح اكثر من 300 من مرشحي الجبهة الوطنية في عبور الدور الأول الى الدور الثاني في الانتخابات التشريعية، ذلك ان القانون الانتخابي الفرنسي يعطي لكل مرشح حاصل على الأقل على 12.5% من الاصوات المعبر عنها، حق البقاء في السباق، مما قد يحول في حالة حصوله، الجبهة الوطنية الى حكم في علاقات القوى داخل الجمعية الوطنية الفرنسية، وهو ما قد يعني دعوة مفتوحة لانتفاضة لا تبقي ولا تذر، في حالة قبول شيراك لمثل هذا الدور للجبهة الوطنية بعد كل الاحتفالية التي رافقت فوزه، لقد اكد الفرنسيون من خلال مشاركتهم المكثفة في التصويت/ الاستفتاء تشبثهم بقيم الجمهورية.. وهو ما سيكون له تأثير على المستوى الأوروبي ايضا.. لكن انقاذها من مخالب الظلامية لا يتأتى الا بديمقراطية نظيفة تخضع فيها الطبقة السياسية لديكتاتورية القانون.

وحيث ان الامر غير ذلك وحيث ان الاصابع الاجنبية تتحرك ايضا في المطبخ الفرنسي/ الأوروبي، فإن اليد ستظل على القلب.

* كاتب ومحلل سياسي مغربي