السلاح العاجل والسلاح الآجل.. وبينهما الزيارة

TT

على هامش العدوان الشاروني الشرير على الشعب الفلسطيني الذي افاد من حيث ان الهمة العربية تململت بعد طول استرخاء، وان الذاكرة العربية للقضايا الوطنية استيقظت بعد طول استسلام في الليل المضيء احلاماً وردية بحسنات السلام ولا سلام.. على هامش هذا العدوان برز سلاح المؤازرة الرسمية والشعبية للشعب الفلسطيني، فبدا هذا السلاح من خلال المسيرات والمظاهرات والتباهي بوضع الشال الفلسطيني على الاكتاف وكذلك من خلال التبرعات كماً ونوعاً، بأنه بقوة السلاح الذي من الواجب ان تستعمله الجيوش العربية، ولكنها لا تستعمله لأن صيغة «السلام هو الخيار الاستراتيجي للعرب» يتقدم يوماً بعد آخر على صيغة «ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلاَّ بالقوة»، بل ان الصيغة الثانية باتت في «ماراثون» العمل العربي متأخرة جداً عن الاولى، ونكاد نقول ان امرها في حكم المطوي حتى إشعار آخر، وإن كنا لا نظن في ضوء الجنوح العربي القوي نحو السلام، أن طي هذا الامر سيطول، بعدما بلغت الاهانة الشارونية للإرادة الدولية والاستهانة المتزايدة من جانب الاسرائيليين ومن معهم مسانداً ومتفهماً ومبرراً، للامتين العربية والاسلامية الحد الذي بات قادتهما يرون أن السلام كخيار استراتيجي استنفد غرضه وأُعطي من الوقت ما جعل اسرائيل تفسره على انه ضعف وتهالُك وليس حسن نية ورغبة عربية مخلصة في ان تسود المسرة في الناس ويستتب السلام على ارض المنطقة، التي اختارها الله سبحانه وتعالى لتكون ارض الرسالات ومهبط الاديان يخرج منها انبياؤه برسالات تنشر في اصقاع الدنيا مبادئ التعاون والمحبة والتسامح والتعايش.

كان سلاح المؤازرة بشقيه يبعث الطمأنينة في النفوس، فالذي سار في مظاهرة ابلغ شقيقه الفلسطيني انه ليس وحده، والتي اطلقت هتافاً ابلغت شقيقتها الفلسطينية انها شريكة محنتها ولو من بعيد، والذين قاطعوا البضائع الاميركية ابلغوا اشقاءهم الذين يقاسون مرارة العدوان الاسرائيلي والحصار المفروض على الناس في قرى ومدن الدولة الفلسطينية المرتقَبة انهم سيفعلون ما هو اكثر من ذلك، وانه لو كان الامر في ايديهم لكانوا قد اخترقوا الحدود وصمدوا مع الصامدين في مخيماتهم.

وما نقوله ليس تعابير انشائية عامرة بالتعاطف، وانما هي حقيقة الموقف كما اظهرته ايام المؤازرة العربية للشعب الفلسطيني. ونحن عندما نتأمل في الذي جرى في بعض الدول العربية وبالذات في المملكة العربية السعودية ودولة الامارات نجد أن حملة المؤازرة بصيغة التبرعات كانت بمثل حملات التطوع. والذي كان لافتاً للانتباه هو هذه العفوية ونكران الذات في مسألة التبرع. وما كميات الذهب والمصوغات التي قدمتها النساء، والسيارات وصكوك ملكية المنازل والكتب والمقتنيات الثمينة عدا المبالغ المالية في شكل «شيكات» مصرفية او نقد، إلا الدليل القاطع على هذا الاندفاع في اتجاه التبرع الذي لم يأت تعويضاً عن الدولة لأن هذه تقدّم للقضية من دون حساب وتمارس هذا الواجب منذ ان انطلقت صرخة المقاومة، وانما لشعور يصعب تشخيصه سوى انه التأثر من وطأة الظلم التي طالت إخوة اشقاء من دون مبرر والامتعاض من الدولة الصديقة الولايات المتحدة التي تأخذ اكثر مما تعطي، وعندما تكون هناك تمنيات عليها بأن تكون بحجم مكانتها وبأهمية دور الرعاية المناط بها فإنها تتصرف كما لو أنها دولة مسلوبة الارادة يتحكم فيها هذا الصهيوني الشارد ارييل شارون ممرغاً سمعتها بأوحاله، ملطخاً وجهها في اوساخ سياسته واعتداءاته التي تعكس حقيقة مشاعر اليهود، عدا استثناءات، نحونا كعرب ونواياهم الشريرة تجاهنا كأمتين ارتضينا الحد الادنى فجاء الرد اعتبار ذلك خوفاً وضعفاً.

وقبل الايام التي ظهر فيها سلاح التبرع كم انه قوي، كانت المساندة من المملكة العربية السعودية على مستوى القيادة ثابتة ومنتظمة وفي منأى عن استعمال هذا الواجب في امور خلافية عربية هامشية، بل ان القيادة من الملك فهد الى امير الرياض سلمان بن عبد العزيز الذي يتابع بحس قومي ووطني عال البرنامج الدقيق أصلاً لموضوع المساندة، تعاملت في هذا الموضوع تعاملاً تمتزج فيه النخوة بضرورات الامن القومي الاستراتيجي. ثم جاء العدوان الشاروني ليجعل المشهد يتطلب ما هو اكثر من المساندة الصوتية، ومن هنا بدأت حملة التبرع استجابة لمبادرة اطلقها وزير الداخلية السعودي الامير نايف بن عبد العزيز، وهي مبادرة غير مسبوقة في العالم العربي لأن الشائع عن وزير الداخلية ان مهمته هي لحفظ الأمن من خلال مطاردة من يتظاهر وبصرف النظر عما اذا كانت المظاهرة محظورة او مسموحاً بها، ثم جاء الامير يطلق شخصياً حملة التبرع الشعبي، وتلقى هذه الحملة تجاوباً غير متوقع من حيث النخوة العفوية، وهي نخوة حملت بعض الاوساط في الادارة الاميركية على الاحتجاج، وهذا متوقع بعد الذي شاهدناه عبر الفضائيات عندما رفض الفلسطينيون المساعدة المرسلة من اميركا على الرغم من ان كل فلسطيني من سكان مخيم جنين الناجين من مجزرة شارون في اشد الحاجة الى هذه المساعدة.

ما يلاحظه المرء في موضوع المساعدة السعودية يلاحظه ايضاً في مساعدة شعب دولة الامارات ورئيسها. والمساعدتان تندرجان تحت بند سلاح المؤازرة الذي هو السلاح العاجل في انتظار دخول السلاح الاجل ميدان الصراع، ونعني بهذا الآجل سلاح النفط ثم السلاح العسكري المألوف عندما تضطر القيادات، وبالذات عندما تجد أن السرطان الصهيوني سيتمدد ويدق ابواب الجميع وذلك في لحظة سكتة دماغية عابرة تصيب العقل الصهيوني بجنون نيروني. وبالاضافة الى حملة التبرع التي انتخى فيها الاماراتيون، رأينا رئيس الدولة الشيخ زايد «ابو المبادرات» الطيبة يرد على «ابو المجازر» شارون بالاعلان عن انه سيتكفل بنفقات ترميم كنيسة المهد في بيت لحم وببناء 800 وحدة سكنية في مخيم جنين مزودة بكافة مرافقها. ومن المؤكد أن هذا ليس كل شيء حيث أنه لا بد من إعادة بناء مؤسسات السلطة الوطنية الفلسطينية.

ويجد المرء نفسه في هذه المناسبة يتمنى لو أن سيدات عربيات وبالذات اللواتي ازواجهن في موقع المسؤولية الاولى حذين حذو السيدة سوزان زوجة الرئيس حسني مبارك التي قادت يوم الاثنين 29 ابريل (نيسان) الماضي مسيرة تجاه الحدود المصرية ـ الفلسطينية مع قطاع غزة شارك فيها عدد من كبار رجال الدولة والوزراء ومسؤولي الهلال الاحمر المصري واعضائه والمجلس القومي للمرأة وبرلمانيين وقيادات شعبية وتنفيذية. وقد استهدفت المسيرة تسليم كميات من المساعدات للشعب الفلسطيني بلغت قيمتها نحو تسعة ملايين جنيه مصري شملت مواد غذائية وادوية ومساعدات طبية وسيارات اسعاف الى ممثلي السلطة الوطنية الفلسطينية. وفي الاحتفال الذي اقيم في ختام المسيرة عند منطقة رفح المصرية الحدودية مع قطاع غزة القت سوزان مبارك كلمة قالت فيها: «اردنا ان تكون مسيرتنا تعبيراً قومياً وانسانياً عن الأواصر العميقة والروابط الوثيقة التي تجمعنا بالشعب الفلسطيني. كما اننا نشعر بالتزام خاص تجاه المرأة الفلسطينية الشقيقة التي تعرضت لأقسى الظروف واصعب التحديات...».

ما اوردناه كمحطات في موضوع سلاح المؤازرة ليس هو فقط ما حدث، فالشعب العربي تفاعل بعدما انفعل، والحكومات تفهمت اهمية سلاح المؤازرة. ولم تبق دولة عربية من دون إشهار سلاح المؤازرة الذي من مصلحة الأمة ان تواصل إشهاره كسلاح عاجل في انتظار السلاح الآجل اذا كان لا بد منه، رصاصاً او نفطاً او قطعاً للعلاقات، ومقايضة الادارة الاميركية بحفاظنا على مصالحها مقابل احترام ارادتنا وحقوقنا، وهو ما كان محور المصارحة التاريخية بين ولي العهد السعودي الأمير عبد الله بن عبد العزيز مع الرئيس الاميركي جورج بوش وطاقم إدارته خلال الزيارة التي قام بها الأمير واثمرت بداية استدارة في العقل الرسمي الاميركي تقوم على أن بقاء الحال على ما كانت عليه حتى الجلسة الاولى من المحادثات هو من المستحيل.. أو من المحال على نحو اللفظ الشائع للعبارة.