الغزو الأوغندي ليس خرقا للسيادة السودانية

TT

أبدت الحكومة السودانية انزعاجها من موقف أوغندا الأخير بالتصويت إلى جانب قرار يدين السودان في لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة. ولم تكتف الحكومة السودانية بإبداء الانزعاج فقط، وإنما طلبت توضيحا رسميا من الحكومة الأوغندية وطرحت فيه تساؤلا هو «هل ما تم يمثل موقفا شخصيا لمندوب أوغندا أم موقف الحكومة الأوغندية ؟». كما هددت بأنه إذا كان ذلك الموقف يمثل الحكومة الأوغندية «فستكون للسودان وقفة ومراجعة لمسار التعاون السوداني الأوغندي».

الحكومة السودانية الآن تنزعج وتتساءل وتشجب وتستنكر وتهدد وتتوعد أوغندا بسبب موقف مندوبها، بينما الجيش الأوغندي يسرح ويمرح منذ أكثر من شهر في جنوب البلاد مطاردا فلول «جيش الرب» وهو يفعل ذلك في حماية القوات المسلحة السودانية.

حاولت الحكومة السودانية في بداية الأمر مداراة أمر الغزو الأوغندي بالسكوت عنه، وحينما انكشف المستور، بعد أن أثير في الإعلام العالمي وأكدته مصادر في وزارة الدفاع الأوغندية، صرحت بأن دخول الجيش الأوغندي الأراضي السودانية ليس غزوا أجنبيا لأراضي دولة محترمة عضو في الأمم المتحدة.. إلخ، وإنما شأن أمني بحت تم بالاتفاق التام مع السلطات السودانية المختصة في القوات المسلحة والأجهزة الأمنية، وهو لا يمس السيادة الوطنية. وتبدو الحكومة السودانية هنا كأنها تقول ان الغزو الأجنبي إذا تم بالإتفاق مع «السلطات المختصة»، لا يمس السيادة الوطنية من قريب أو بعيد بل يصبح عملا وطنيا بارزا. ويبدو أن السيادة في هيكلية السلطة في السودان تتبع لدوائر غير رئاسة الجمهورية والحكومة المركزية. وطالما أن الحكومة السودانية لا ترى في عبور القوات الأوغندية الحدود السودانية غزوا يمس السيادة، فسيكون منطقيا ان تطالبنا بألا نعيره أدنى اهتمام، وان نتجاهل تلك السوابق التاريخية التي تحدثنا عن أن قادة الدول والجيوش الذين سمحوا لجيوش أجنبية بغزو بلادهم قد وصموا وحوكموا وأدينوا بالخيانة العظمى.. لقد كان ذلك في عصور سحيقة، أما الآن فنحن في عصر العولمة التي محت كل الحدود ووحدت كل الجنسيات. ومثلما كان الغزو عملا وطنيا لا يمس السيادة، فقد كان كذلك ديمقراطيا في شكله ومحتواه، فقد تم بعد محادثات طويلة وحوار ودي بناء، وليس أدل على ديمقراطيته من أن فترة الاحتلال يتم تجديدها من آن لآخر بموافقة الطرفين.

ولكن لندع المنطق المعتل جانبا: هل يمكن لسلطة ما أن تسمح لجيش دولة أخرى بعبور حدودها والقيام بعملياته كما يشاء داخل أراضيها بدون أن تكون تلك السلطة قد فرطت حقا في السيادة الوطنية. لقد أقام قادة الانقاذ الدنيا ولم يقعدوها إبان حرب الخليج الثانية ولم يكف قادتها ومنظروها، الحاليون منهم والغاربون، عن إلصاق أبشع التهم وبأقذع الألفاظ على حكام دول الخليج بأنهم فرطوا في السيادة الوطنية عندما سمحوا لقوات أجنبية باستخدام أراضي تلك الدول في عملية صد الغزو العراقي وتحرير الكويت، رغم أن تلك القوات جاءت في إطار تحالف دولي كانت دول الخليج طرفا فيه ومسنودا بقرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة، ورغم أن ذلك الوجود الأجنبي لم يكن غزوا وإنما صدا لغزو، ولم يكن تفريطا في سيادة وطنية بقدر ما كان جهدا مشروعا في سبيل استعادتها. إذا كان ذلك هو موقفهم إبان حرب تحرير الكويت، فما قولهم الآن والجيش الأوغندي قد دخل ديارهم لا لمناصرة شعب أحتلت دياره أو لطرد عدو غاصب، وإنما للقضاء على حليف من أقرب وأهم حلفاء النظام وهو «جيش الرب» الذي استدعاه النظام، كما استدعى المجاهدين من قبل من كل بقاع المعمورة، ووفر لهم المأوى والمعاش والمعسكرات والمال والتدريب والسلاح والحماية وحرية الحركة.

أي حليف يا ترى يمكن أن يطمئن لهؤلاء الناس بعد الآن أو يضع ثقته فيهم وهو يراهم جهارا ونهارا يبيعون حلفاءهم من كل ملة، من العرب الأفغان وغير الأفغان، من المسلمين والمسيحيين، من الأوروبيين والأفارقة ومن «كارلوس» لأممي إلى «أبي أنس» الذي لا يهم كثيرا إن كان ليبيا أم غير ذلك؟ ذلك هو حال وسلوك النظام الذي يتشدق بقيم النخوة العربية وفضائل المناصرة الإسلامية. إنني أسأل المتشدقين بتلك القيم والفضائل من مناصري الإنقاذ، كيف تقيمون هذا السلوك مقارنة بموقف النظام الصليبي العلماني الأوغندي من أصدقائه وهو يرفض رفضا جازما أن يدفع شعرة واحدة من رأس «الحركة الشعبية» ثمنا لاتفاقيته مع الحكومة السودانية، بل ويمتنع حتى من التدخل لدى مندوبه في «جنيف» كي يصوت لصالح السودان أو حتى أن يمتنع عن التصويت؟ ظلت الإنقاذ تدير حربا ضروسا في جنوب البلاد تحت شعار الجهاد، والذي يبدو أنه رفع عن الحكومة السودانية منذ الحادي عشر من سبتمبر (ايلول) الماضي، وكذلك شعار صون السيادة الوطنية على كامل تراب الوطن. وكانت قد بلغت من حرصها على السيادة مبلغ من لا يهمه مطلقا إذا كان الشعب ذاته فوق تراب الوطن أم تحته، ترى هل يكون الحفاظ على السيادة الوطنية واردا في الجنوب فقط عندما تكون البندقية على الطرف الآخر من الجبهة هي بندقية «الحركة الشعبية لتحرير السودان»؟ وإذا كان مبدأ السيادة الوطنية ليس واردا عند الغزو الأجنبي، ألا يعطي ذلك مصداقية باهرة لمطلب «الحركة الشعبية» بتحرير السودان، والذي استنكره الكثيرون وحاولوا دحضه بتساؤلهم «تحريره ممن؟»، ولا نعرف ماذا سيحدث إذا ما استعصى «جيش الرب» على القوات الأوغندية أو استعصم بـ«تورا بورا» ما في أصقاع الجنوب، هل هناك نص في اتفاقية الغزو يسمح للأوغنديين باستخدام مقاولين من الباطن مثل أصدقائهم في «الحركة الشعبية» أم أن ذلك يخضع لموافقة الحكومة السودانية؟ إذا كانت الحكومة السودانية لا ترى في ما قامت به القوات الأوغندية شيئا يستوجب مجرد الإشارة إليه، دعك من التصدي له، فلماذا يرفع الجميع الآن عقائرهم بالصراخ والولولة دافعين بالوفود هنا وهناك طلبا للوساطة أو المناصرة إزاء «الحشود الإريترية» على الحدود الشرقية؟ هل للأمر علاقة بالجغرافيا أو اتجاه الرياح، بحيث يكون الغزو مقبولا ومسكوتا عنه إذا جاء من جهة الجنوب، ومرفوضا ومطلوبا التصدي له إذا جاء من ناحية الشرق. وهل سيكف هذا الغزو الاريتري المزعوم عن كونه خرقا للسيادة الوطنية اذا اختار الرئيس افوركي ان يغزو بلادنا بالحكمة والموعظة الحسنة، وبعد التشارو مع الاجهزة المختصة؟ هل يتحول غزوه عند ذاك الى عمل وطني واجراء ديمقراطي وسلوك حضاري؟

* كاتب سوداني ـ الدوحة