برد الجرح.. وبدأت التساؤلات

TT

الكل وفي مقدمة الجميع الشعب الفلسطيني ينتظر من رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية، بعد كل هذه التضحيات العظيمة وبعد كل هذا الدمار الكبير، عملية اصلاح فعلية وحقيقية وليس مجرد اجراء ترقيعي يكون «مكياجا» خادعا لوضع كشفت سوءته وعورته الحرب التي شنها شارون على مدن وقرى الضفة الغربية والتي خلفت كل هذا الانهيار في البنية التحتية وفي مؤسسات السلطة واجهزتها المدنية والامنية.

لم يكن الاجتياح مفاجئا، وكان هذا الذي حصل بقسوته ودمويته متوقعا وبهذا الحجم، وأكثر وأكبر، منذ انهيار كامب ديفيد الثانية ومجيء شارون الى الحكم، وكان المتوقع بدل تلك الحالة التي سادت والتي رغم بطولات وعطاءات الشعب الفلسطيني العظيمة، لم تكن بمستوى التحدي، بل كانت عبئا كبيرا على أبو عمار وعلى وحدة القرار التي كانت غير متوفرة في ظروف مصيرية وخطيرة.

قد يرى بعض الإخوة الاعزاء في القيادة الفلسطينية ان الوقت ليس وقت الحديث عن السلبيات، بينما المعركة لا تزال محتدمة وبينما شارون يستمر في تنفيذ مخططه الاجرامي، لكن ليعذرنا هؤلاء الاخوة الاعزاء ان نقول لهم، مع ان ايدينا في الماء وأيديهم في النار: انه حتى يمكن الاستمرار بهذه المعركة بشقيها السياسي، وهو الأصعب والأخطر، والعسكري، لا بد من مراجعة سريعة عاجلة وجريئة ولا بد من ضبط الأمور حتى لا تذهب تضحيات الشعب الفلسطيني هباء وبدون انجاز.

عندما يبرد الجرح يبدأ الألم والشعب الفلسطيني الذي أحاط أبو عمار بقلوب اطفاله وحدقات عيونهم سيتذكر الآن كل سلبيات السلطة الوطنية، السابقة واللاحقة، وستكون لديه الجرأة، وهو شعب جريء، كما في المعركة كذلك في قول الحق، ليتحدث عن كم هائل من السلبيات وهي سلبيات كان عنوانها ذلك «الاشتباك» المخجل بين العقيدين محمد دحلان وجبريل الرجوب على شاشات الفضائيات العربية بينما كان دخان المعارك لا يزال يتصاعد.

كانت القيادة الفلسطينية تتحدث منذ أكثر من عام عن ان اجتياح اسرائيل لمناطق السلطة الوطنية قادم، وزودت كل الدول العربية وكل دول العالم بمعلومات دقيقة حول هذا الأمر، ولكنها هي نفسها، كما اتضح لاحقا بعد الاجتياح، إما أنها لم تكن مقتنعة بما كانت تقوله ولا مصدِّقة لما كانت تتحدث به، أو أنها كانت مقصرة ولم تستعد الاستعداد الكافي لاجتياح بهذا المستوى من العنف والدموية والتدمير.

إننا نعتقد اعتقادا يصل حدود القناعة بأن القيادة الفلسطينية بعد هذه التجربة القاسية والمكلفة لن تنقصها الجرأة لتعترف بما حدث من قصور وتقصير، فأولى الخطوات نحو الاصلاح المنشود هي التحلي بالشجاعة والاعتراف بالأخطاء وحقيقة أنه كانت هناك أخطاء، قبل هذه المعركة الأخيرة وخلالها، لا يتحمل مسؤوليتها الشعب الفلسطيني، الذي أظهر بطولات لم يظهرها شعب آخر وعلى مدى حقب التاريخ القريب والبعيد، وإنما يتحملها كل أولئك الذين كانوا يمسكون بمقاليد الأمور.

في البداية، عندما اندلعت انتفاضة الأقصى، كانت انتفاضة شعبية جماهيرية سلاحها الحجارة ضد الدبابات الإسرائيلية ومدافع جنود الاحتلال، وكان المفترض ان تكون هناك سيطرة ميدانية للقيادة الفلسطينية بكل محطاتها الهرمية وبكل فروعها واجهزتها، فتحول دون جرها وانجرارها إلى ما كان يخطط له شارون والاستخبارات العسكرية الإسرائيلية وهو المواجهة المسلحة التي تعطي المبرر للجنرالات الإسرائيليين لاستخدام كل اسلحتهم، طائرات الـ F16، وطائرات الأباتشي والدبابات والمدافع الثقيلة.

كان المفترض ان تكون القيادة الفلسطينية مسيطرة وان تحدد هي طبيعة المواجهة وزمانها ومكانها، لكن ما حصل ان القرار أصبح بيد الشارع الخاضع لكل أنواع المزايدات وكل أشكال التهييج، الداخلية والخارجية، فانحرف الطامعون والطامحون والمورِّطون والمورَّطون بسير الأحداث فوضعوا الوضع الفلسطيني بأسره على الرصيف الذي اختاره شارون واختارته الاستخبارات العسكرية الإسرائىلية.

ما كان يجب ان تسمح القيادة الفلسطينية بخروج الانتفاضة عن إطارها الشعبي، وما كان يجب ان تسمح لا بظاهرة الهاونات ولا بمسرحية صواريخ «القسام» و«البنا» و«الاقصى»، وكان يجب ان تمنع وبالقوة بعض العمليات الانتحارية وبخاصة بعد الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) وبعد ان تبيَّن حتى لأعمى البصر والبصيرة ان شارون كان بانتظار المزيد من هذه العمليات ليحقق مخططه باظهار ان الفلسطينيين ارهابيون وجزء من معسكر أسامة بن لادن والملا عمر وان اسرائيل ضحية ويجب ان يُسمح لها بالدفاع عن نفسها وان تكون رأس الرمح في محاربة الإرهاب! قد يكون هناك عذر للقيادة الفلسطينية في ان الولايات المتحدة أدارت لهم ظهرها في عهد الإدارة الجديدة وان إسرائيل بعد مجيء شارون إلى سدة الحكم وقبل ذلك ارتدَّتْ على عملية السلام وتراجعت عن اتفاقيات «أوسلو»، لكن كل هذا الذي حصل وحدث كان يجب ان يزيد من سيطرتها الميدانية على الشارع المتأجج حماسا والمتفتق مرارة وكان يجب ان يدفعها إلى المزيد من وحدانية القرار كما كان يجب ان يحول دون بروز أي قيادة أخرى إلى جانبها سواء من داخل السلطة الوطنية أو من خارجها.

لا أخطر على شعب من الشعوب ان تكون هناك أكثر من قيادة تقوده، وهو يخوض معركة مصيرية بحجم ودموية وخطورة المعركة التي يخوضها الشعب الفلسطيني، وأحدث الأمثلة على ذلك هو الشعب الكردي وكذلك الشعب الصومالي، ويقينا ان قائدا مخضرما ويتمتع بذاكرة قوية ونظرة ثاقبة مثل أبو عمار كان يجب ألا يفوته ان ديفيد بن غوريون اضطر لاغراق سفينة باسلحتها وبركابها من أجل ألا تكون هناك قيادة موازية لقيادته، وان بشير الجميل اضطر إلى التخلص من بعض شركائه من أمراء الحرب ليحافظ على السيطرة الميدانية في يده.

الوحدة الوطنية الفلسطينية ضرورية وهامة ويجب المحافظة علىها لكن بشرط ان تكون السيطرة الميدانية عسكريا وأمنيا، وان تكون السيطرة السياسية لقيادة واحدة قرارها واحد وان لا تكون هناك أية جهة تقود الشارع الفلسطيني، المحبط والمكلوم الكرامة، في اتجاه غير الاتجاه الذي تريده القيادة الشرعية.

لا يمكن إلغاء مسؤولية الانحراف بالانتفاضة عن خط سيرها وتحويلها إلى مواجهة عسكرية، كما أراد وخطط وسعى شارون، على أي من فصائل المعارضة الفلسطينية ولا على أي من شبان حركة «فتح» الأكثر حماسا والذين أرادوا سحب البساط من تحت أقدام «حماس» و«الجهاد» والمحافظة على قيادة حركتهم الأم للشارع الفلسطيني... إن المسؤولية تقع على عاتق القيادة لأنها الأكثر معرفة بحقيقة الأوضاع والأكثر إدراكا لما تخطط له إسرائيل ولما تسعى إليه بعض الدوائر المتصهينة في الولايات المتحدة الأميركية.

لقد كانت تضحيات الشعب الفلسطيني كبيرة وكان عطاؤه عظيما ولقد بدأت الأسئلة والتساؤلات الآن بعد ان برد الجرح، ولذلك فإن المنتظر، حتى لا تكون العواقب سيئة وكما يخطط شارون والدوائر المتصهينة في الولايات المتحدة الأميركية، ان يبادر أبو عمار وبسرعة وقبل ان تفلت الأمور من يده نهائيا ويفقد السيطرة الميدانية، إلى عملية اصلاح فعلية تضع الرجل المناسب في المكان المناسب وتضع حدا للترهل الذي جعل معظم قادة الاجهزة خارج مواقعهم. بينما كان المفترض ان تكون المهام والمواقع محددة ومعروفة ما دام ان الاجتياح كان متوقعا ومنذ نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي على الأقل.

هناك حمولة زائدة حول أبو عمار، وهناك اقطاعيات أمنية وسياسية، وهناك بروز، خاصة في غزة، لقيادة فلسطينية موازية لها برامجها ولها جيشها واجهزتها وعلاقاتها وارتباطاتها الخارجية، والمؤكد ان زعيم الشعب الفلسطيني ياسر عرفات قد فكر في هذه الأمور مليا خلال ليالي الحصار الطويلة وان المتوقع والمفترض ان الصورة أصبحت واضحة في عينيه وفي ذهنه وان قناعته غدت أكثر رسوخا بأن عليه ان يتحرك الآن، وبحزم وحسم، فالوقت ضيق والشعب الفلسطيني بات يتساءل، بعد ان برد الجرح، والمعادلة الدولية والاقليمية لا ترحم.

إن أبو عمار هو الذي بقي يردد ومنذ نحو اربعين عاما وفي كل محطات النضال الفلسطيني المعاصر «اللهم اشهد.. إني قد بلغت»، ويشهد الله ان كل من يهمه مستقبل الشعب الفلسطيني العظيم والمكافح عليه ان يتحلى الآن بالجرأة لقول الحقيقة، والحقيقة انه لم يعد هناك مجال للتردد بعد كل هذا الذي حصل... والحقيقة ان القيادة الفلسطينية لن تبقى هي ذاتها قيادة لشعب قدم كل هذه العطاءات وبذل كل هذه الدماء الزكية ان هي لم تتحرك الآن وتتخلص من كل السلبيات التي ظهرت في المواجهة الأخيرة وان هي لم تضع حدا فعليا لظاهرة الاقطاعيات الأمنية والسياسية وللولاءات الجانبية ولوجود أكثر من قيادة أخرى وببرامج غير برامجها إلى جانبها.

التاريخ لا يرحم، وهذا يعرفه أبو عمار القائد التاريخي والمجرب والذي لم يأت صدفة ولا بمعادلة اقليمية أو بقرار خارجي، كما هو الحال بالنسبة للكثيرين في الساحة الفلسطينية وعلى مدى تاريخ الكفاح الفلسطيني، ولذلك فإن لحظة الاصلاح الفعلي أزفت وان تساؤلات الشعب الفلسطيني بعد ان برد الجرح ستتخذ مسارا خطيرا لا محالة إن لم تكون اجابة القيادة الفلسطينية عليها مقنعة وفعلية... وسريعة وقبل ان يفوت الأوان وتمضي اللحظة التاريخية الحاسمة.