عندما يقبل الحمر على الخيار الديمقراطي

TT

حدوث الشيء متأخرا افضل من عدم حدوثه بالمرة، هذه هي الفكرة التي خطرت بذهني في باريس عندما التقيت مصادفة دانيال كوهن بنديت بالقرب من ساحة الباستيل. هل تذكرونه؟ انه «داني الاحمر» الالماني الذي اصبح رمزا للثورة في ذروة احداث مايو (أيار) 1968 بباريس عندما صعد ورفاقه الطلاب في تمرد ضد ما وصفوه بـ«ديمقراطية البرجوازية المتعفنة» التي ارادوا يطيحوا بها ويضعوا مكانها «حكما مباشرا بواسطة الشعب». من ضمن الشعارات التي رفعها هؤلاء في ذلك الوقت «الانتخابات خدعة ثقة»، شاهدت هذه المرة داني، الذي اوشك على الاحتفال بعيد ميلاده الستين، يرفع لافتة كتب عليها «صوتوا جميعا لجاك شيراك».

لم يكن «داني الاحمر» هو الوحيد من بين المتمردين السابقين الذي خرج هذا الشهر لتأييد شيراك الذي يعتبر نموذجا اصليا وتجسيدا لساسة المؤسسة الفرنسية، فقد وقف خلف شيراك الحزب الشيوعي واثنان من الاحزاب التروتسكية الثلاثة الى جانب حزبين اشتراكيين وست مجموعات اخرى يسارية تأييدا له في مواجهة مرشح اليمين المتطرف لانتخابات الرئاسة جان ماري لوبن، اذ يمثل هؤلاء حوالي ثلث نسبة الـ82 في المائة من الاصوات التي حصل عليها شيراك في الجولة الفاصلة من انتخابات الرئاسة. لا تنبع اهمية الانتخابات الاخيرة فقط من كونها جاءت بمثابة هزيمة ساحقة للوبن وانما من مجموعة اخرى من الاسباب. فهذه الانتخابات تبدو دليلا على التزام مؤكد من قبل مختلف مجموعات اليسار الفرنسي بالعملية الديمقراطية، باستثناء جماعة «نضال العمال» المتشددة، بقيادة آرليت لاغيلار، التي اعلنت بوضوح ان اعضاءها لن يصوتوا لشيراك ووعدت بأن تحارب لوبن بـ«وسائل اخرى» بما في ذلك شغب الشوارع، بيد ان حوالي 70 في المائة من الذين صوتوا للاغيلار في الجولة الاولى من الانتخابات تجاهلوا اعلان المجموعة وادلوا بأصواتهم لمصلحة شيراك في الجولة الفاصلة. يعني هذا بوضوح ولأول مرة عدم وجود مجموعة او حزب كبير في فرنسا يرفض الانتخابات كوسيلة وحيدة لتغيير الحكومات في البلاد، اذ يعتبر هذا بالتأكيد مؤشرا ايجابيا في مصلحة الديمقراطية الفرنسية. غير ان هذا لا يعني ايضا ان النظام الديمقراطي الفرنسي لا يتهدده الخطر من جوانب اخرى. فقد افرزت انتخابات الرئاسة الاخيرة عددا من الدروس التي لا يجب اغفالها. أولا، القدر الكبير من التعددية يقتل التعددية نفسها، اذ تنافس 16 مرشحا في الجولة الاولى من الانتخابات مما وفر امام الناخبين خيارات واسعة. ولكن، للمفارقة، افضى ذلك في نهاية الامر الى وضع الناخبين امام خيارين اعتبروهما شرين احدهما اكبر وآخر اصغر. جمع شيراك في الجولة الاولى من الانتخابات نسبة 19 في المائة من الاصوات، مع الاخذ في الاعتبار الناخبين الذين لم يدلوا باصواتهم بالاضافة الى الاصوات الضائعة، اذ تقدر نسبة هؤلاء بحوالي 13 في المائة من الناخبين. وفي الجولة الثانية حصل شيراك على تأييد حوالي 63 في المائة من الناخبين، وبذلك يكون شيراك، الذي حصل على نسبة ضئيلة من الاصوات في الجولة الاولى، قد جمع في الجولة الثانية اعلى نسبة من الاصوات وذلك لأول مرة في الانتخابات الفرنسية منذ عام .1961 والسبب في ذلك يعود الى ان نصف الذين ادلوا بأصواتهم لشيراك في الجولة الثانية والاخيرة في انتخابات الرئاسة فعلوا ذلك فقط لضمان هزيمة لوبن اذ انهم صوتوا في واقع الامر ضد مرشح وليس لمصلحة مرشح.

تبدو نتائج الاصوات التي حصل عليها شيراك في الجولة الثانية اشبه بالانتصارات التي يحققها زعماء ما يسمى بـ«العالم الثالث»، ففي الديمقراطيات العادية لا يحرز مرشح اكثر من نسبة 55 في المائة من الاصوات تقريبا. وباستيعاب اليسار المتطرف الآن ضمن النظام الديمقراطي الفرنسي، من المهم لفرنسا استيعاب اليمين المتطرف ايضا، اذ عند ذلك فقط ستتمكن الديمقراطية الفرنسية من استئناف مهمتها الحقيقية التي تتلخص في توفير خيارات كافية امام الناخبين بطرح برامج وسياسات بديلة بدلا عن «الشر الاكبر والاصغر». صحب التجربة الفرنسية خلال الاسابيع القليلة السابقة قدر كبير من الذعر، اذ ان المؤسسة الفرنسية لجأت الى وسائل غير ديمقراطية في سياق تخوفها من حصول لوبن على ثلث الاصوات في الجولة الثالثة. لم تكن هناك بالطبع اعتقالات او اشكال من العنف من النوع الذي نراه في «الدول النامية»، بيد ان وسائل الاعلام الفرنسية تصرفت على النحو الذي تتصرف به عادة وسائل الاعلام التي تسيطر عليها الدولة كما هو الحال في الكثير من الدول الافريقية والآسيوية. فالناخب العادي وجد نفسه امام عدد هائل من البرامج المتتالية في مختلف وسائل الاعلام خصصت للحط من قدر لوبن والسخرية من الذين سيدلون بأصواتهم لمصلحته. استخدام وسائل غير ديمقراطية دفاعا عن الديمقراطية ليست ظاهرة جديدة، اذ ان التجربة اظهرت ان مثل هذه الوسائل لا تفضي الى تحقيق انتصارات نهائية. كان لا بد من تحدي لوبن والوقوف في وجهه وهزيمته ولكن من الضروري ان يحدث ذلك وفق الوسائل الديمقراطية مثل المناظرات التلفزيونية بينه وشيراك. فزعيم اليمين المتطرف لا يعدو ان يكون شخصا ثرثارا ليس لديه ما يقدمه سوى الخوف والكراهية، فسياسته الاقتصادية مجرد نكتة سخيفة، اما سياسته الخارجية فتتضمن الانسحاب من الاتحاد الاوروبي واثارة نزاع مع الولايات المتحدة، فيما تبدو سياسته الثقافية المقترحة نسخة منقحة من الستالينية. لم تجر مناقشة أي من هذه القضايا خلال الانتخابات ونتيجة لذلك لم يدرك الملايين الذين صوتوا لمصلحة لوبن بأنه خطر على الديمقراطية الفرنسية، ليس فقط بسبب مسلكه الشخصي وانما بسبب السياسات الرعناء الطائشة التي طرحها. وما يمكن قوله هنا هو ان لوبن سحق انتخابيا لكنه يظل غير مهزوم سياسيا. الاسوأ من ذلك ان لوبن ربما يكون قد حصل على بعض المكاسب السياسية في مواجهة معارضيه. فبتدثره بالعلم الفرنسي وترديده النشيد الوطني لفرنسا، اثبت لوبن ان الوطنية هي بالتأكيد آخر ملاذ للأوغاد. تكمن المشكلة في ان الكثير من معارضيه حاولوا التفوق عليه في الوطنية الزائفة برفعهم وتلويحهم بالعلم الفرنسي وترديدهم للنشيد الوطني لفرنسا الذي تعتبر كلماته غير ديمقراطية. وبمعنى آخر، نجح لوبن في وضع بصمته البشعة في السياسة الفرنسية بكاملها. ترى، ما العمل؟ يجب استخدام الانتخابات البرلمانية المقبلة لغرض هزيمة لوبن و«الجبهة الوطنية» في الساحة السياسية ومن خلال الجدل الديمقراطي. اما الذين صوتوا لمصلحة لوبن، فيجب ان يشرح لهم بوضوح السبب في خطأ تقديراتهم.