آليات التغيير الاجتماعي

TT

كان العرف في الصين قديماً يقوم بالمحافظة على قدم الفتاة بطول ثلاث بوصات كما جاء في قصة «بجعات برية» لـ«يونغ تشانغ» كي تنفق في سوق الزواج أفضل وتكون أكثر إثارة للرجل. كانت الأم تقوم بربط القدم بأحزمة قاسية بعد ثني الأصابع للداخل فتغرس في اللحم سنوات طويلة وتتعفن. وزيادة في الجمال كان قوس القدم يهرس بحجر فلا تقو الفتاة على المشي الصحيح مدى الحياة. والفتاة التي كانت تكبر بقدم طبيعية كانت تحاسب والدتها على هذا التقصير فلقد كانت سببا في كساد زواجها. هذه الواقعة التي كانت تمارس بدون نقاش تروي مهزلة العقل البشري وكيف يمكن اغتياله على نحو منظم وعلى مستوى جماهيري قرونا طويلة. والعقل العربي اليوم مضغوط في قوالب ثقافية من هذا النوع تحافظ على صغره بدون جمال، ويهرس عموده الفقري زيادة في إتقان العمل فلا يستطيع نهوضا.

واليوم تخطئ السياسة العربية ثلاث مرات حينما تظن أولاً: أن المجتمع لا يخضع لقوانين في تغييره، وتتجاهل رياح التغيير التي تتجمع في الأفق تنذر بهبوب العاصفة. وتخطئ ثانياً: حينما تؤمن أن القوة خير من العقل، وأن ضبط الأمور بأجهزة الاستخبارات سيدوم إلى يوم القيامة. وتخطئ ثالثا:ً حينما ترى أن مفاتيح التغيير هي في واشنطن وليس عند شعوبها. إن العرب اليوم مستعدون لاتهام شياطين الإنس والجن في طيف لا يكف عن الاتساع من الاستخبارات العالمية والصهيونية والتبشير. وليس عندهم قدرة وضع «احتمال» أنهم عنصر في المشكلة. فإذا فرغت جعبتهم من كل الأسلحة فيمكن الرجوع إلى أسلحة مشركي العرب قديما وزعمهم أن سبب شركهم هو الله «لو شاء الله ما أشركنا». وإذا تدخلت قدرة الله على الخط أصيب بالخرس كل لسان.

إن الكون في كل مستوياته يخضع لقوانين سواء (الفيزياء) مثل الجاذبية والطفو (النفس) مثل الشعور بالأمن وتحقيق الذات. أو (المجتمع) في برمجة العقل ومحورية العادات ومعنى الدين. أو (الحضارة) عندما انبثقت من مجتمعات بدائية بقوانين خاصة ثم ماتت بأمراض نوعية. وإدخال هذه الفكرة إلى الخارطة الذهنية عندنا يجعلنا نفهم السياسة كعلم لا يخطئ إلا في أضيق الحدود. ولكن السياسة العربية اليوم تمارس الخطأ في أعرض الحدود وعلى نحو متكرر. مثل الأعمى الذي يقود أعمى ليقع الاثنان في حفرة. وسيمفونية المجتمع اليوم هي بين سياسي أطرش ومواطن أعمى ومثقف أخرس، فما أحلى الأنغام؟ وعندما نفهم أن الكون لا يقوم على الفوضى بل القانون ومصيره ليس عبثاً بل بُني على الحق فهو يُدخل إلى روعنا فكرتين أساسيتين: اكتشاف قانون الأشياء، وتسخير الكون ومنه الآلة الاجتماعية. وهذا الشيء كان غامضاً من قبل ولكن الفكر التنويري وصل إلى حقيقة أن الكون يقوم على حزمة لا نهائية من القوانين المتشابكة ليس فقط في الفيزياء بل النفس والمجتمع والسياسة. وأن (معرفة) القانون تعني آلياً السيطرة عليه بغض النظر عن الآيديولوجية التي يحملها صاحب الاكتشاف، وحسب القرآن «تسخيره» أي الخدمة المجانية «كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا». وإذا كان قانون الكهرباء ساري المفعول في الفيزياء ونرى أمكنة التوتر العالي مرسوما عليها جمجمة; فإن مفهوم (السنة) في حركة المجتمع من نفس النوعية مع اختلاف الدرجة. والمخالفة فيه يدخل العذاب على المجتمع من فوقهم ومن تحت أرجلهم أو يلبسهم شيعا ويذيق بعضهم بأس بعض. ولقد سيطر هذا المفهوم على (ديكارت) بحماس كما جاء في كتابه (المقال على المنهج) فأراد نقل مفاهيم الرياضيات إلى المجتمع والنفس كي يعطيها نفس القوة من الوثاقة واليقين. كما أن (سبينوزا) من فلاسفة التنوير في القرن السابع عشر وضع كتابيه «رسالة في تحسين العقل» و«الأخلاق مبرهنة بالدليل الهندسي» أراد البرهنة فيهما على الأخلاق مثل البرهان الرياضي في الصفر والسطوح والزوايا، ليصل في النهاية إلى وضع تحفته في الربط بين اللاهوت والسياسة، وبتعبير القرآن «الجبت والطاغوت» ومنه نفهم أن مشكلة الوثنية هي أهم مشاكل الجنس البشري إلحاحاً. وعندما نريد تسليط (القوة) على (العقل) أو رفع (السيف) فوق (الكتاب) أو إيجاد مجتمع (الإكراه) بدل (الرشد) نكون قد قضينا على حرية الاختيار عند الإنسان. ومع الإكراه وإعدام الاختيار ينتهي الإنسان ويتحول إلى بندقية للإطلاق في المغامرات العسكرية أو بوق للزعيق في المظاهرات. وهي المشكلة التي أحرق من أجلها (جيوردانو برونو) في الأيام الأولى من القرن السابع عشر فأنار أوربا، و(برونو) لم يكن فيلسوفا صاحب مدرسة بقدر دعوته إلى حرية الرأي فمات من أجل (حرية) الفكر أكثر من (الفكر) لذاته بتعبير المؤرخ (ويل ديورانت). وهو بهذا اصطدم مع جذر التفكير الكنسي ولم تسامحه الكنيسة أو تعيد له الاعتبار حتى اليوم خلافا لما فعلته مع جاليلو. والذي أعاد الاعتبار لبرونو الفكر الإنساني الذي أنشأ له ضريحا في مكان حرقه واحتفل في مظاهرة حاشدة في روما بمناسبة مرور 400 سنة على حرقه. وهذا الخلل في العلاقة بين (القوة) و(الفهم) أو (الدماغ) و(العضلات) مرض أسس العالم عليه بدءا من مجلس الأمن الإجرامي وانتهاء بصغار الطواغيت في العالم الثالث الذين يستمدون شرعيتهم من الطاغوت الأكبر في العالم ومجلس الأمن بحق الفيتو الذي يؤسس شريعة القوة ويعيق ولادة العدل ويصادر إرادة العالم كلها بيد رهط مفسدين في الأرض. ومشكلة أو جدلية (إرادة القوة) و(قوة الإرادة) هي المحور الرئيسي الذي جاء من أجله الأنبياء لرد الاعتبار إلى (الإنسان) أمام (الحاكم) و(الشعب) باتجاه (السلطة) و(العقل) أمام (الطغيان). وأمام تراكم أخطاء منهجية مثل أن التاريخ يروي العبثية وأنه جدول من دماء وأن السيف أصدق أنباء من الكتب وأن الغدر سيد الأحكام وأن الاستخبارات هي خير أمان لكرسي الحاكم فإنه يكرر حماقة الجرذ الذي استأجر لنفسه مصيدة. وتخطئ السياسة العربية ثالثاً حينما تظن أن حل مشكلة شعوبها هو بالتفاهم مع واشنطن أكثر من المصالحة مع شعوبها. وان مجلس الأمن بقراراته سوف يُدخل الأمن إلى المنطقة. إن مجلس الأمن يشبه قبر الشافعي الذي يرسل له المريدون المكاتيب لحبل النساء أو الإفراج عن سجين وما هو بفاعله. ومجلس الأمن لن يفعل أكثر من عقم المشاكل وزيادة المعتقلين والمعذبين وعرقلة العدل في العالم ومصادرته بيد أقوياء الغابة. إن العالم العربي في ورطة حقيقية والانفراج لن يأتي من واشنطن ومجلس الأمن بل من داخل العالم العربي. وكان يتعجب مالك بن نبي من القيادة السياسية في الجزائر التي تذهب لباريس للعثور على الحل وهو بين يديها في الجزائر. وحق الفيتو في حرب الخليج الأخيرة لم يكن في نيويورك بل في الشرق الأوسط. إن الصراع العربي ـ العربي هو الجوهري والأساسي أكثر من الصراع العربي الإسرائيلي. الذي لا يزيد عن ارتفاع حرارة مريض مصاب بالحمى التيفية. ولن يستفيد المريض من حبوب الأسبرين إلا ربما في انثقاب الأمعاء. ومع كل توتر الأوضاع في فلسطين مع أحداث ربيع 2002م لم تفكر أو تغامر الدول العربية في الدخول في صراع مسلح مع إسرائيل وهي حكمة اضطر لها السياسيون مرغمين كما أنها مؤشر مزدوج الاتجاه أن وقت الحروب ولّى، وأن المغص الحالي في احشاء دولة إسرائيل سوف يحل داخلياً. وأي نقل للصراع إلى الحدود العربية يعني القضاء على الانتفاضة. وإذا كانت هذه الحكمة تنفع في صراع الدول العربية مع إسرائيل الذي ختمت فصوله فهو أجدى للصراع الداخلي في إسرائيل أن يحمل على ناقلة من مقاومة مدنية طويلة النفس. ولكن المشكلة هي في القناعة والتربية على أسلوب جديد في الصراع.

إن انهيار جهاز المناعة في الجسد العربي هو الذي ولد الشروط المثالية لاستنبات الجراثيم الصهيونية. وهو مؤشر خطير على أن هذا الجسد مؤهب لأنواع لا نهاية لها من الإصابات الجرثومية مثل مريض الإيدز الذي تجتاحه فرق لا نهاية لها من الفيروسات والباكتريا والفطريات وسرطان الجلد من نوع كابوزي مثل يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون. ان التغييرات الجذرية الداخلية هي التي ستمهد للحل، إنها حكمة بالغة: غيّر نفسك تغير التاريخ. وتخطر في بالي ثلاثة أمور: 1 ـ الإعلان عن إزالة تأشيرات الدخول بين البلدان العربية. 2 ـ تقليص القبائل الأمنية الضاربة التي تحولت إلى دول فعلية فإذا اعتقل الفرد بتقرير كاذب من مخبر سري لم يعرف أهله في أي دولة رسا مصير ابنهم. والمشكلة أن مضارب القبائل قديما كانت محدودة بجغرافيا، فيدخل الإنسان في جوار شيخ القبيلة. ومع الدولة الحديثة تحولت جغرافيا البلد كلها إلى مضرب لكل شيخ قبيلة أمنية. وهو مؤشر مفزع على أننا لا نعيش وضع الأمة أو الدولة القومية بل حياة القبيلة بشيخ يلبس ربطة عنق أمريكية ونظارة إيطالية. 3 ـ ان نقترح أن يتقدم أكثر من مرشح للانتخاب في أنظمة الأحزاب الشمولية. ولكن هذا الكلام يوقظ النائم ويزعج المستيقظ ولذا فإن الأفضل المحافظة على سيمفونية الشخير العام.

[email protected]