مؤثرات اللوبي الصهيوني في أميركا وخيارات العرب

TT

يبدو التساؤل العام عن مستوى دعم الرئيس الأميركي بوش المطلق لحكومة إسرائيل مبرراً، لسبب بسيط هو ان ايقاعاته الاعلامية في مناخ مجزرة الاجتياح الاسرائيلي لمناطق السلطة الفلسطينية جاءت مثيرة للحساسية الشعبية العربية، وإن لم تكن كذلك بالنسبة للمتابعين وللنخب السياسية، وبينها مراكز القرار السياسي العربي المختزنة للكثير من المعلومات، وتراكم قضايا الدعم الأميركي للكيان الاسرائيلي منذ تأسيسه عام 1947 في ارشيف الادارات المختلفة منذ تراجع الرئيس (ترومان) عن موقفه الرافض لقيام دولة اسرائيلية في فلسطين، وقبوله نصيحة صديقه اليهودي وشريكه في محل «الخردوات» جاكسون في الاعتراف بها.

ولكي لا تتكرر لحظة الضغط بوجه مخططات الدولة اليهودية التوسعية مرة ثانية، بعد موقف الرئيس (آيزنهاور) عام 56، الرافض لهجومها مع حليفتيها (بريطانيا وفرنسا) على مصر، وجدت الكتلة الصهيونية اليهودية، المهيمنة على المال والاقتصاد الأميركي، ومن خلال فرض النفوذ السياسي ان تقلب معادلة تلك اللحظة الحرجة الى حالة دائمة يخضع فيها الحاكم الأميركي الحالم بالبيت الأبيض لشروط اللعبة اليهودية، ليس بعدم التعرض لسياسة اسرائيل وحسب، وانما بدعمها سياسياً وعسكرياً واعلامياً. ولكي لا تظل قنوات التأثير معتمدة على مزاج وحساسية العلاقات الفردية المتقنة بين رؤساء البيت الأبيض وأصدقائهم من يهود الصهيونية، كان لا بد من تكوين مؤسسات علنية ابرزها اللجنة اليهودية الأميركية للشؤون العامة (ايباك) و (رابطة مكافحة التشهير) ومجابهة كل من يحاول الوقوف بوجه برامج دعم الكيان الاسرائيلي تحت العنوان التقليدي المثير (معاداة اليهود تعني معاداة السامية)، والذي أصبح أكثر وضوحاً في الأيام الأخيرة ليعني (من يعادي الصهيونية يكون عدواً للسامية) مما دفع بالكاتب الأميركي اليهودي المعروف (ريتشارد كوهين) للقول في مقالته في صحيفة «الشرق الأوسط» بتاريخ 2/5/02 «لو لم أكن يهودياً فربما أتهم بمعاداة السامية اذ انني وجهت من وقت لآخر انتقادات الى اسرائيل وانحزت مرات اخرى للموقف الفلسطيني». ولعل القاعدة التي تستند اليها تلك المؤسسات اليهودية لا تكتفي بضمان ولاء الرئيس والكونغرس ودعمهما لاسرائيل، وانما تعمل على احكام ادارة جميع فعاليات المناصرة والتأييد بين مختلف الأوساط الاقتصادية والثقافية والاعلامية والتربوية في الجامعات والكليات والصحف وشبكات التلفزيون ومراكز البحوث، ورصد النشاطات التي يمكن ان تشكل ثغرات ضد اسرائيل، وأساليب مجابهتها بطرق الخداع وتزييف الحقائق، وكذلك في شحن التأييد الشعبي العام للسياسات الاسرائيلية، تقوم (إيباك) بتوزيع استمارات اسئلة على جميع الجامعات والكليات في الولايات المتحدة تطلب تسمية اساتذة وطلبة يساندون الجماعات المعادية لاسرائيل، وكيفية تقديم المساعدة. وهي حالياً تسعى الى ركوب موجة مكافحة ما يسمى بـ (الارهاب) داخل الولايات المتحدة لتعقب والتنكيل بقطاعات واسعة من الطلبة العرب الدارسين أو المقيمين هناك. ولاحظنا الدور التعبوي الذي قامت به (ايباك) في اجتماعها اواخر شهر (ابريل) الماضي لدعم عمليات الاجتياح الاسرائيلي الاخير لمناطق السلطة الفلسطينية. وقد اعلنت شبكة C.N.N الأميركية الاخبارية بتاريخ 13/5/02 عن تكون عناصر ضغط جديدة داعمة ومتحالفة مع عناصر الضغط اليهودية في الولايات المتحدة تحت عنوان (حركة الصهيونية المسيحية) تنشط بين أوساط المسيحيين الاميركيين لصالح اسرائيل.

ولا تكتفي اسرائيل بنشاطات جماعات اللوبي وما تحققه من نتائج في الدعم السياسي والاقتصادي والاعلامي الذي تقدمه «الامبراطورية الاميركية»، بل تسعى الى تأمين الدعم الاستخباري لدولتها من خلال اختراق الدفاع الاميركي بواسطة شبكات التجسس المنتشرة في المراكز العلمية عالية التقنية للحصول على اسرارها، وتكشف التقارير الصحفية بين فترة واخرى بعض تلك النشاطات، وقد وصف الكاتب الأميركي جولدن توماس، في كتابه «بذور النار» الجاسوس اليهودي الأميركي الشهير، جوناثان بولارد الذي يقضي عقوبة السجن المؤبد في اميركا بقوله «لقد اختلس من الاسرار الاميركية اخطرها وأعزها.. اختلس ما لم ينجح السوفيات طيلة الحرب الباردة في اختلاسه»، واصبحت قصة رئيس الحكومة الاسرائيلية الأسبق بنيامين نتنياهو معروفة حين طالب الرئيس الأميركي بيل كلينتون في مباحثات «واي ريفير» عام 98 مقايضة اطلاق سراح ذلك الجاسوس بالموافقة على حلول التسوية الإسرائيلية ـ الفلسطينية. وكان العاملون في البنتاغون يمارسون مهمتهم الاحترافية في التقيد بممنوعات السلاح فيرفضون الطلبات الاسرائيلية، لكن دائما ما يأمر البيت الابيض بتلبيتها، ولكن اليوم لا يحتاجون لذلك حيث يدير مناصرو اسرائيل رأس قيادة البنتاغون. ويقول السيناتور الأميركي، بول فندلي، في كتابه «من يجرؤ على الكلام» إن الاسرائيليين يعرفون جميع الأرقام السرية داخل مختبرات الاسلحة الحساسة الالكترونية الخاصة بالتشويش وغيرها. وأعلن ادوارد سبانوس رئيس تحرير شبكة Intelligence on line بتاريخ 11/4/02 إنه تم قبيل الحادي عشر من سبتمبر الكشف عن أخطر شبكة تجسس اسرائيلية في الولايات المتحدة الأميركية، وابعدت مجموعة من هؤلاء الجواسيس بعد ذلك التاريخ.

هذه الأمثلة وغيرها الكثير والتي تؤكد عراقة اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة، وما وصل اليه في الأيام الأخيرة من مستوى التأثير في القرار السياسي الأميركي، تثير تساؤلا يبدو محيراً وصعباً يتعلق بقدرة العرب على الخروج من أزمة الصراع العربي ـ الاسرائيلي وفق خيار التسوية السلمية، وما هو الخيار الذي يمكنهم تبنيه من بين أحد الخيارات التالية المتداولة حالياً في الساحة السياسية للتعامل مع الولايات المتحدة الأميركية باعتبارها المقرر العالمي الوحيد في مصير النزاع:

الخيار الأول: بذل الجهود لبناء وتطوير لوبي عربي في اميركا، قادر في منطلقاته ووسائله على مقاومة اللوبي الصهيوني، وحتى لو توفرت النية على بناء هذا الجهد وبإمكانيات اصحاب المال العرب، فليس من باب التشاؤم القول بأن هذا الهدف يبقى مهماً ولكنه لن يتمكن من الوصول الى مستوى التأثير، لسبب تاريخي وموضوعي بسيط هو ان الكتلة الصهيونية واحدة، واشتغلت وفق مسارات عدة منذ اكثر من قرن على تحقيق هذا الهدف، والقرار الاسرائيلي ينطلق من مرجعية سياسية واحدة هي دولة اسرائيل. اما العرب فهم كتلة في المفهوم النظري القومي الذي لم يتمكن، عبر نصف قرن، من تحويل تلك المبادئ والأفكار الى برنامج سياسي فعال، اضافة الى وجود اثنتين وعشرين مرجعية وقرارا سياسيا.

الخيار الثاني: ويدعو الى الانكفاء نحو الذات، والتعامل مع اميركا كعدو تجب محاربته بكل الأسلحة، والعمل على تأجيج الكراهية نحوها وهذا الخيار لا يتجاوز حدود الشعارات التي تؤدي الى نتائج عكسية. فهو خيار شعاري قريب الى القلوب والضمائر، لكنه بعيد عن العقل والسياسة.

الخيار الثالث: وهو خيار العقل الواقعي المستند الى حقائق الظروف، التي اوجدتها حالة الانفراد والاستقطاب الدولي بعد نهاية الحرب الباردة والثنائية القطبية، والذي لا يقبل حالة التسليم بقرار الوحدانية والخضوع له، ومواجهة تلك السياسة عن طريق الاشتباك بالحوار، وليس الصدام.. وهو خيار صعب يتطلب وعياً استباقياً ومهارة سياسية للتمكن من خلق مناخات التأثير بالمصالح والمنافع بين الولايات المتحدة والعرب، وليس التهديد بها.. ومحاولة بذل جهود سياسية ذكية لازاحة عمليات التزييف التي تمارسها اسرائيل مع الولايات المتحدة.. صحيح ان الوقائع الأخيرة كشفت عن قدرة فعالة للوبي الصهيوني بعد هيمنتهم على البيت الأبيض من خلال مؤسسات القرار في الكونغرس والبنتاغون والأمن القومي، وبنسبة أقل في الخارجية، الا ان التسليم بهذا الواقع المر، والابتعاد عن خوض غمار هذا الخيار سيزيد من استفراد اسرائيل بأميركا، ويعرض المنطقة الى مزيد من الفوضى والكوارث. إن الوضع يتطلب بناء برنامج سياسي عربي حكيم لا يفرط بالمصالح والحقوق القومية العليا ويترجم الى فعاليات متواصلة، وليس باسلوب الهبة الموسمية، التي قد تعطي بعض النتائج المؤقتة، والتفتيش عن موضوعات لرسائل تأثير توجه للإدارة الأميركية تنبهها الى خطورة سياسة الدعم المطلق لاسرائيل على مصالحها وعدم التأثر بأساليب الخداع التي توحي بها وادعائها بأنها «دولة ديمقراطية وشعبها يستحق الحياة الحرة الآمنة.. أما شعب فلسطين فمصيره الذبح والإبادة».

نعم العرب الآن يقفون على مفترق طرق، وتأكيدهم مرة جديدة بتبنيهم برنامج السلام والتسوية مع اسرائيل لم يعد كافياً لتحديد خياراتهم المصيرية، ومواجهة الأخطار المقبلة، فهم بحاجة الى برامج تحدد خياراتهم الوطنية في الحفاظ على هويتهم الدينية والقومية ووحدتهم الاجتماعية، والدفاع عن قيمهم الروحية، ومواجهة الانقسامات الطائفية والعرقية والتي قد تختفي خلفها دعوات التطرف الديني بسبب الهجمة العنيفة التي تواجهها.

* سفير عراقي سابق [email protected]