غياب في الشارقة

TT

احتفلت صحيفة «الخليج» قبل عامين بمرور ربع قرن على صدورها من امارة صغيرة في عرض الخليج تدعى الشارقة. وقد دعت الى المناسبة مجموعة كبرى من اهل الفكر والسياسة والاعلام، كان القاسم المشترك بينهم ان جلَّهم يرى في صحيفة تصدر من اطراف العالم العربي، منبراً او فسحة.. والحقيقة ان هذا اهم ما ميز جريدة الشارقة طوال ربع قرن: انها جريدة ناشطة، منخرطة، مهتمة، معنية، مهنية، لولا صفحاتها المحلية لاعتقدت انها تصدر في ا لقاهرة او الرياض او بيروت. وبسبب هذه السمعة، او الميزة، او الصفة، تحولت «الخليج» الى تيار سياسي ومنبر ادبي ومطل رحب للكثير من الكتاب.

وخلف هذه الصحيفة التي اصبحت تصدر الآن باكثر من 70 صفحة في اليوم، وقف منذ اللحظة الاولى رجل من الشارقة يدعى تريم عمران. واذ اخذت ابوظبي الحدائق الغلَّب، واخذت دبي اشراقات المدنية الحديثة، اخذت الشارقة لنفسها معلماً كالقلاع القديمة، هو «دار الخليج». وفي هذه الامارة الخالية من النفط والشركات والموارد الاخرى، اقام تريم عمران واحدة من اكبر المؤسسات الاعلامية في العالم العربي ومن هو اكثرها مردوداً ومن احسنها ادارة. واستطاع ان يجمع بين الالتزام الصادق وبين العمل الصحافي الحقيقي الذي يدرك انه لا يمكن للمؤسسات ان تنمو وان تزدهر وان تعيش باساليب ووسائل من غوابر الامس. وبسبب هذا التطور المستديم جعل من «الخليج» لسنوات طويلة، صحيفة لكل الخليج، تتماشى، واحياناً تتبارى مع الصحف المحلية، وهو دور كانت تلعبه صحف الكويت ايام نشاطها وقبل صدمة الغزو، التي ردتها الى هموم وشجون الداخل وحده، صغيرة وكبيرة على السواء.

كان تريم عمران يحب ان يذكر كإنسان. ولم يقدم نفسه اطلاقاً على انه صحافي. وكان يحب ان يذكر كواحد من القوميين العرب، الذين رأوا في العروبة متسعاً لا منغلقاً ولا منعزلاً ولا حصناً مضاداً لكل الافكار والاتجاهات، بل صهراً لها وملتقى وغاية واسلوباً في الحياة وفي التعامل وفي التواصل بين اهل الامة. وهو من ذلك الجيل الخليجي الذي رأى في كل عاصمة عربية مدينة له، وبحث في كل مدينة عن شارع يضيفه الى حلمه الطفولي الكبير.

كان تريم عمران (ابو عمران، للاصدقاء) اذا ما جاء لندن لا يمكن الا ان نلتقي. ثم صار اذا ما جاء بيروت لا يمكن الا ان يبلغني مسبقا. ولم اكن اذهب مرة الى دبي، الا واتجه صوب الشارقة ولو لفنجان قهوة سريع. وفي بيروت كان لنا مخبأ نذهب اليه منفردين الا من مدير مكتب «الخليج». وهذا المخبأ كان مبيت وديع الصافي، حيث كان لأبي عمران شرط واحد على سيد الحناجر الذهبية: قصائد المتنبي، وسألنا وقد مررنا بنجد أطويل طريقنا أم يطول. لقد سقط الغياب على طريق تريم وهو في قلب الطريق.