مصيدة الإرهاب تنقلب على بوش!

TT

اشترط الرئيس عرفات لاجراء الانتخابات الفلسطينية انسحاب القوات الاسرائيلية من المناطق التي اعادت احتلالها مرة أخرى ووقف الهجمات التي لم تتوقف اصلاً وطالت بالأمس حتى مخيم جنين الذي ظن الكثيرون انها من فرط ما ارتكبت فيه من جرائم حرب ستسعى الى الهاء الناس عنه، خاصة بعد فضيحة الغاء لجنة التحقيق الدولية! لكن كما يبدو ان اسرائيل غير عابئة بأية كوابح طالما تجد الغطاء الذي تريد من الولايات المتحدة الامريكية ولا تسأل حتى عندما لا تستجيب لمطالب أو رجاءات الادارة الامريكية! قطعا ما كان لعرفات ان يضع هذا الشرط لو كانت اسرائيل تستجيب لما يقوله بوش فهو قد استعمل منذ اكثر من شهر عبارات تطالب اسرائيل بالانسحاب من الضفة فقال: من دون ابطاء، وأردف: الآن، وهذا يكفي، وختم بأعني ما أقول! ولم تترك اسرائيل ولو من باب المجاملة للرئيس بوش هامشاً ضيقاً يمكن للمغالطة ان يزين به قدراً يسيراً من حفظ ماء الوجه له، بل كانت أكثر العبارات لطفاً هي من عينة: ان المهمة لم تنته بعد، والارجح انها لن تنتهي الا بعد اجتياح غزة وبسط السيطرة الاسرائيلية على جميع مناطق السلطة! ألم يقل مسؤول اسرائيلي بالامس: ان مخطط اجتياح مدن وقرى ومخيمات القطاع لا يزال قائماً، وانه سينفذ في موعد أقرب بكثير مما يتوقعه البعض، ولم نسمع من امريكا حتى كلمات استهلاكية من عينة ما حدث يكفي! ونخشى ان نسمع منها انه على عرفات اجراء الانتخابات من دون وجوب شرط الانسحاب.

على الطرف الآخر يطول حصر المطالبات الامريكية التي لم ينقطع سيلها بعد سواء كانت للسلطة الفلسطينية أو للعالم العربي، ومع صعوبة تلبية بعضها وضرورة تنفيذ اسرائيل لما يوازيها في المقابل فإن الاصرار الامريكي على ضرورة تلبية تلك المطالبات يقابله في الجانب الاسرائيلي ما يوحي وكأن تلك مطالب واشتراطات اسرائيلية، اما بغرض تجييرها لما يمكن وصفه بمكاسب لاسرائيل من جراء حربها على الفلسطينيين! أو بهدف اجهاضها رغبة في توتير الاجواء بين امريكا والعرب حتى تتملص الادارة الامريكية من آخر التزاماتها المبنية على «رؤية دولة فلسطينية قابلة للحياة جنبا الى جنب مع اسرائيل».

وبالمناسبة فان مجرد التعبير عن رؤية لدولة فلسطينية كما ورد على لسان الرئيس بوش ووزير خارجيته ووجه في المبتدأ بالصمت ومن ثم عدم الترحيب به والرفض.. وفقا لقرار اللجنة المركزية لحزب الليكود الذي عبر صراحة عن رفض قيام دولة فلسطينية. ولم يكن من بين الاعضاء من هو مع قيام دولة فلسطينية، بل كان الخلاف بين من ارادوا التصويت على رفض الدولة ومن ارادوا التأجيل في البت في الوقت الراهن لاسباب تكتيكية لا أكثر ولا أقل! ومع ذلك جرى التصويت في تحد واضح للادارة الامريكية وقاده نتنياهو الذي كان هناك قبل أيام يحشد التأييد لاسرائيل في مظاهرة شارك فيها عدد من مسؤولي الادارة الامريكية يتقدمهم نائب وزير الدفاع الذي خاطب المظاهرة الشعبية! ومع ان الجانب العربي ومعه السلطة الفلسطينية على وجه الخصوص أخذوا يستجيبون لما يسمى بوقف العنف ويسعون لتوحيد المواقف الفلسطينية بكل السبل ومنها، الدعوة لمؤتمر فلسطيني يجمع كل الفصائل فإن العنف الاسرائيلي يتواصل بلا انقطاع، ومع ان السلطة قد أخذت في اعادة ترتيب اوضاعها واعادة تشكيل هياكلها من قمة السلطة الى ادناها الا اننا نسمع تطاولا شارونيا ينحدر الى اسفل درجات الوقاحة وهو يطالب بفرض حكومة فلسطينية مؤقتة حتى لو عارضها عرفات، ويلمح مستشاره للسياسة الخارجية بان هذا الطلب كان شارون قد ناقشه مع الرئيس الامريكي ما يعني ان الاصلاحات في المؤسسة الفلسطينية تتم بناء على رغبة شارون! وحتى الصحافة الاسرائيلية روجت لما اسمته: ان الادارة الامريكية تعكف حاليا على اعداد قوائم لشخصيات فلسطينية مرشحة لشغل مناصب في الهياكل الجديدة للسلطة وأوردت بعض الاسماء من بينها، الدكتورة حنان عشراوي التي ردت: بأن موقف شارون عنصري وان حديثه عن الاصلاحات الفلسطينية محاولة لتفادي محادثات السلام. واكدت ان الاصلاحات الفلسطينية ليست من شأنه.

واذا كانت المواقف العربية والفلسطينية بكل الطرق تحاول تجنب الوقوع في شرك الاستفزازات الاسرائيلية وتريد ان تلمس الاستحقاقات التي وعدت بها الادارة الامريكية، فإن الاصابع الصهيونية قد تحركت باتجاه فتح جبهة ضد الرئيس بوش لصرفه عن الانغماس في قضية الشرق الاوسط ولزعزعة شعبيته التي ارتقت الى أعلى نسبة يرتقيها رئيس امريكي منذ الحرب العالمية الثانية بسبب مواجهته للارهاب في اعقاب احداث سبتمبر، فقد سربت بعض الصحف الامريكية ما وصف بان الرئيس لم يبد اهتماما يذكر بتقارير استخباراتية قدمت اليه قبل شهر من الكارثة، وهكذا انفتحت النيران على الرئيس من كل الاصعدة، خاصة ان المعركة الانتخابية النيابية على الابواب، ويبدو انها معركة لن تصرف الرئيس فحسب عن الشرق الأوسط وانما تكلفه فقدان وهج شعبيته عن المكمن الذي تصاعدت منه! وتكلف حزبه الخسران في الانتخابات القادمة وهذا يريده ويتمناه الحزب الديمقراطي، الذي يبدو ان شهيته قد انفتحت على هذا المدار في ادارة المعركة الانتخابية وهو مدار يناسب اللوبي الصهيوني الذي يريد اصطياد كل العصافير بضربة واحدة. وبالرغم من ان الرئيس ونائبه ومستشارة الأمن القومي وتوابعهم كلهم قد تحدثوا عن ان التقرير كان عموميا ولم يشر بشكل يدعو الى التمحيص لاستباق احداث سبتمبر فقد لمح الرئيس الى ان التسريب يشتم من ورائه رائحة سياسية! وبالطبع المعركة آخذة في الاتساع والاسئلة تتكاثر وابرزها: لماذا لم تشكل الادارة لجان تحقيق حول الكارثة التي مضى عليها الآن ثمانية اشهر؟ وهذا سؤال كبير ومثير ويحمل في ثناياه ادانة مسبقة! ولكن ما يثير الريبة والشكوك هو لماذا سكتت كل الاطراف في الولايات المتحدة كل هذه المدة ولم تطالب منذ البداية باجراء تحقيقات شاملة مع وفي كل الاجهزة الاستخبارية لان تلك الكارثة تعد لا سابق لها وادت الى تشكل عالم جديد عرف بعالم ما بعد الحادي عشر من سبتمبر وما استتبع ذلك من تحالفات ومتغيرات؟! لا شك ان السكوت طوال هذه الاشهر لا بد انه كان ولم يزل يحمل في طياته الكثير من الادانات التي تشمل الجميع بلا استثناء، خاصة اولئك الشيوخ الذين فجأة افاقوا من سباتهم واخذوا يطالبون بان يتولوا هم التحقيق حتى يكون بعيدا عن كل المؤثرات! على كل حال ما يهمنا في هذه العجالة والمعركة التي انفتحت ما تزال في بداياتها، ان الحرب على الارهاب قد اختطفتها اسرائيل بعد فترة وجيزة من اندلاعها وحاولت بشتى الطرق ان تجعل لا فرق بين المقاومة والارهاب، مما أدى الى خلط ما زلنا نحاول ان نفك ارتباطه، بينما هي لا تمل من تكرار ان ما تفعله في الاراضي الفلسطينية هو نفس ما تفعله امريكا في افغانستان واحيانا يغمز شارون بوش بزعم ان مجازر جيشه في جنين لا وجه لمقارنتها بما فعله الجيش الامريكي في افغانستان! والآن يبدو ان اسرائيل بعد ان استمرأت توظيف الحرب على الارهاب مستخدمة كل ثقل الولايات المتحدة تريد ان توجه الدفة في هذه الحرب على بوش شخصيا او على الاقل ان تستثمر هذه المستجدات في المواجهة بين الحزبين بالنسبة للانتخابات لتصرف ادارة بوش عن التزامها بقيام دولة فلسطينية فهل تنجح؟

حقا ان الامر يتوقف على الطريقة التي ستدير بها ادارة بوش المعركة حول النيران التي فتحت عليها من جهة والالتزامات التي اعلنت الالتزام بها من جهة أخرى. والمطلوب من الرئيس الامريكي الذي لمح الى ان هناك رائحة سياسية وراء ذلك التسريب الذي فتح معركة التحقيقات وما ينسب اليه من قصور ان يتصرف بما يرد عنه وعن امريكا تلك الرائحة اذا صح ان من بين اهدافها ابتزازه صهيونيا وان يتخلى عن رؤيته للدولة الفلسطينية. فما ينبغي ان تكون اكبر دولة في العالم مرتهنة لدولة عصابات تدير شبكات مافيا سياسية في بلد عظيم مثل الولايات المتحدة الامريكية عليه قيادة العالم. ولا شك ان الرئيس الذي يواجه هذه المافيا سيدخل التاريخ من اوسع ابوابه.