نيويورك ولندن وباريس تتولى تسويق أخبار العرب للعرب

TT

الدولة مالك ومدير غير ناجح للإعلام. فهي لا ترى إلا نفسها في مرآتها الإعلامية. تصدر صحفا تختلف في الاسم وتتطابق في العنوان، وتحتل صورتها الشاشة التلفزيونية فلا تستطيع أن تسمع سوى مدائح الإعجاب بإنجازاتها.

الرأي العام العالمي وهو الاسم المستعار للرأي العام «الغربي» الذي نطمع في غزوه عقلانيا وعاطفيا بقناة فضائية أو صحيفة دولية، غير متعود أن يرى صورة الدولة بهية ومصقولة بهذا «الماكياج» الصارخ الأصباغ والألوان.

لقد أبديت تشاؤمي على مدى الاسبوعين الماضيين من نجاح مشروع إعلامي دولي تطلقه وتموله الدولة أو الدول العربية، فاختلاف العرب مع العرب ليس الشرط الوحيد لاستحالة الوصول الى الرأي العام الغربي برأي واحد وسياسة واحدة، فالاحتكار الرسمي للمشهد كفيل ايضا بإحباط أية محاولة للوصول الى قناعة المشاهد أو القارئ الغربي.

انه لاستخفاف كبير بالمنطق أن نسعى لتسويق العرب الى العالم، فيما نحن ما زلنا عاجزين عن تسويق العرب الى العرب إعلاميا وإخباريا! لقد ملأنا الديار والفضاء بالصحف وقنوات التلفزيون، ثم نسينا البعد الثالث للإعلام الذي أحاول ان أثير إليه الاهتمام في هذا الحديث اليوم.

هناك أمة تعد أكثر من ربع مليار انسان وتفترش أهم مناطق العالم حيوية على مساحة تزيد عن 12 مليون كيلومتر مربع، ولا تملك قناة واحدة للتبادل الإخباري والمعلوماتي. فبعد مضي قرنين على الثورة الإعلامية، وبعد نصف قرن من الاستقلال السياسي، ما زال العرب يسمعون ويعرفون اخبار العرب من خلال مصانع تكرير الاخبار وغربلتها وتوجيهها في لندن وباريس ونيويورك! وأعني بها وكالات الأنباء.

أنت، يا سيدي، في دمشق لا تعرف أخبار بيروت إلا من وكالة الأنباء الفرنسية، وأنت في الكويت أو أبوظبي لا تعرف عن الرباط إلا من وكالة رويترز البريطانية، وأنت في الخرطوم أو بنغازي لا تدري ما يجري في القاهرة إلا من خلال ما تنقله على مدار الساعة وكالة «أسوشيتد برس» الأميركية.

شكرا للصحافة اليومية العربية في لندن، وشكرا لمحطات التلفزيون الرئيسية، فقد أقامت كل منها شبكة واسعة من المراسلين في العالم العربي، لسد جانب من النقص في التغطية الإخبارية نتيجة لغياب وكالة أنباء عربية اقليمية على الأقل. لكن مراسل الصحيفة أو المحطة لا يستطيع أن يقوم بعمل وكالة أنباء تغطي كل الأخبار والأحداث.

الرغبة الجارفة في المباهاة بامتلاك أدوات الاعلام الهوائي والورقي ثم انعدام الدراية بالإعلام الإخباري، هما وراء هذا الغياب الفاضح لوكالة أنباء عربية اقليمية أو دولية. فهي بمثابة السلك الكهربائي الذي يصلك بالعالم عن طريق الهاتف أو الإذاعة أو التلفزيون أو الانترنت والكومبيوتر.

الطرافة أن هناك وكالات أنباء بعدد الدول العربية. لكنها وكالات أنباء محلية تكاد أن تكون نسخة من الجريدة الرسمية، وإن كان لهذه الوكالات مراسل في هذه العاصمة أو تلك، فهو مضطر الى أن يكون انتقائيا في تغطيته الإخبارية، فلا يرسل الى مركزه الرئيسي سوى الأخبار التي تروق لأذن الحكومة.

لقد بلغ الوعي الغربي بدور وكالات الأنباء الى درجة حدت ببريطانيا الى بث «وكالة أنباء عربية» الى جانب رويترز العالمية. وظلت هذه الوكالة تحتكر توزيع إعلام العرب للعرب في الاربعينات والخمسينات، ثم توقفت مع انسحاب بريطانيا من المنطقة والعالم.

وكنت آمل وما زلت أن تحتل وكالة «أنباء الشرق الأوسط/ أشا» المصرية مكان الوكالة البريطانية كوكالة أنباء عربية أو اقليمية على الأقل، لكن الوكالة منذ انشائها قبل نحو نصف قرن ما زالت شديدة الالتصاق بالدولة وبالبيروقراطية التقليدية، وأسيرة المحلية الشديدة للصحافي المصري الذي يعرف عن العالم العربي بقدر ما أعرف أنا عن نيبال وأنت عن تايوان.

ولعل الوعي المصري الكبير للإعلام الإخباري يحرر هذه الوكالة يوما من كل هذه القيود لتكون وكالة أنباء اقليمية وعربية تغطي العرب من الخليج الى المحيط بحياد غير انتقائي للخبر، وبتقنية محترفة لتحريره تنافس تقنية رويترز أو الاسوشيتد برس، لكي تفرض خبرها ونفسها على المحرر في أية صحيفة أو محطة تلفزيونية عربية.

ما زال العمل الإخباري متعثرا في العالم العربي. قد تدهش، يا سيدي، إذا قلت لك ان المخبر الصحافي في هذه العاصمة أو تلك، يضطر أحيانا الى تقديم طلب يحمل طابعا وختما رسميا للحصول على خبر أو لكي يحظى بمقابلة وزير أو مدير خطير!.

والمراسل العربي أو الاجنبي يشقى للحصول على الترخيص الرسمي السنوي للعمل، ويتعرض لضغوط لمزاوجة عمله الإخباري بعمل مخابراتي. نعم، هناك بصراحة مراسلون عرب وأجانب يزاوجون بين المهنتين، لكن الصحافي الذي يحترم نفسه ومهنته يقاوم الإغراء، كي لا يفقد مصداقيته وثقة وكالته أو صحيفته به.

وما زالت هناك عواصم ترفض قبول مراسلين عرب أو أجانب لديها، ولا تقبل بفتح مكاتب للوكالات، ثم تشكو من عدم اهتمام العالم بها. وفي غيبة الوعي هذه، فكثير من وزارات الإعلام العربية سترفع حواجبها دهشة اذا قلت لها ان معظم المراسلين العرب لوكالات الأنباء الأجنبية في العواصم العربية، ان لم يكن كلهم، هم مجرد مراسلي ارتباط (Stringer) وليسوا (Correspondent) معتمدين بالاتصال مباشرة بالمركز الرئيسي في لندن أو باريس أو نيويورك، وانما بالمراسل الأجنبي الاقليمي المقيم في القاهرة أو قبرص أو بيروت، ليتولى هو الانتقاء والتصحيح، ثم يخضع الخبر في المركز الرئيسي الى غربلة أخرى وإعادة صياغة بما يتفق مع التوجه السياسي للوكالة وارتباطاتها غير المباشرة بسياسات ومصالح بلدها في المنطقة.

كل وكالة لها رؤيتها السياسية والمهنية للخبر. ولذلك فمقدمته الرئيسية تخضع لهذين العاملين. لكن العناصر الإخبارية التي يجب ان تتوفر فيه واحدة لا تختلف. وكم أتمنى على الصحافة العربية أن تحرص على أن يكون خبرها مستكملا عناصره الخبرية، ليكون مفهوما وواضحا للقارئ الذي يدرك انه أمام خبر «ناقص» دون أن يعرف ما هي عناصر الخبر.

إذا كانت الدولة الديمقراطية لا تملك صحيفة أو وكالة أنباء، فقد بلغ الوعي الإعلامي الى درجة اتفاق صحف رئيسية على تمويل تأسيس وكالات أنباء متنافسة في ما بينها. الأسوشيتد برس تسبق رويترز حاليا في الخبر العالمي وتنافسها في تقنية الصياغة والاختصار والتركيز. لكن الهوس بالسبق والانفراد يجعلها تتخلى أحيانا عن الرصانة والمصداقية اللتين تحرص عليهما منافستها البريطانية.

ولا شك ان شراء العرب لوكالة «يونايتد برس» المنافسة لزميلتها الأسوشيتد مبادرة مهمة للغاية. لكن الروح الإعلامية العدائية للعرب في الصحافة الغربية غيبت تماما أخبار هذه الوكالة المهمة، لمجرد الشبهة بأن الأصابع العربية قد تفرض بصماتها على توجهاتها السياسية.

وبعد، ماذا أقول؟

إذا كنا عاجزين عن تدويل العرب إعلاميا عبر صحيفة أو محطة أو وكالة، فلنتقبل الخطر، لنفتح النوافذ، لنسمح لوكالات الأنباء العالمية بفتح مكاتب لها في عواصمنا. فلم تعد هناك أسرار كثيرة غير معروفة. فنحن نعيش في عالم مكشوف وعار تماما ومجرد من خصوصياته المحلية. ولا خيار امامنا. فوكالة الأنباء العالمية تذكر العالم بنا، وتضعنا على الخريطة الإعلامية في العالم.

لن أسمي الأنظمة العربية الأكثر انغلاقا في التعامل مع المراسلين ووكالات الأنباء، لكن أقول ان الفلسطينيين هم الأكثر ذكاء. وعندما انسحبت قياداتهم من بيروت فقدوا القدرة على التعامل المتبادل مع الوكالات، فقد كانوا يسربون اليها ما يريدون دون فرض. لكن خطيئتهم الإعلامية هي من جنس خطيئة النفي الرسمي العربي الذي يصاب بالحرج والانفضاح عندما يقوم الدليل على صحة الخبر.

الذكاء الإعلامي يفرض أن يكون هناك في أعلى مراكز السلطة ووزارات الإعلام والخارجية والداخلية والدفاع والثقافة والمؤسسة الأمنية ناطقون رسميون أو شبه رسميين يعرفون ليس فقط ممارسة النفي والتكذيب واصدار بيانات عامة لا تشفي غليلا عن مقابلة مع سفير أو مسؤول ضيف، لكن يعرفون كيف يردون فورا على هاتف لمراسل في الفجر أو في آخر الليل، ويملكون الذكاء والتفويض لتسريب الاخبار والمعلومات التي ترغب الدولة في جس نبض الآخرين بها، دون إحراج الإعلان عنها رسميا في تصريحات علنية.

اننا نملك أدوات وقنوات إعلامية كثيرة، لكن لم نملك بعد منتهى الحرفة والذكاء في معرفة التعامل معها واستخدامها. كان الخبر أو السر متاحا أحيانا في وقت واحد لهيكل وزملائه، لكن الذكاء في التعبير والتوجيه والحرفة العالية في الصياغة والتقديم هما اللذان يميزان صحافيا عن صحافي وصحيفة عن صحيفة.