قطار الانتفاضة السريع يصل إلى محطة الإصلاحات

TT

اعلن الرئيس الفلسطيني في خطاب موجَّه الى الشعب عَبْر المجلس التشريعي عن قراره إجراءَ اصلاحات جذرية في هياكل السلطة التنفيذية، والقيامَ بتقييم ادائها وتقويم اعوجاجها، وتنظيمَ انتخابات ديمقراطية بلدية، وتشريعية، ورئاسية.

وجاء خطاب الرئيس واضحا ومسؤولا وحازما وشاملا لتحديد الاهداف، ومشيرا الى الاليات الواجب استعمالها لمتابعة هذا الشكل من الانتفاضة التي ما تزال تقطع المراحل والمسافات بنجاح منذ نشأتها وطيلة عشرين شهرا. وكان للشعب الفلسطيني في كل مرحلة من مراحلها تعاملٌ خاص مثير للاعجاب والتقدير من لدن الاصدقاء والخصوم على السواء.

واتسم ابو عمار في خطابه بشجاعة نادرة ـ لا تستغرب منه ـ لحد انه جهر بتحمله شخصيا الاخطاء التي ارتكبها هو ومساعدوه في تدبير الشأن العام الفلسطيني، ونطق بهذا الاعتراف في نبرة صوتية شفافة لا تهرب ولا مُواربة فيها. وهو ما جعل من خطابه حديث مصارحة ومكاشفة لم نعتد سماعهما من عدد من القادة، وذلك رغم ورود الخطاب في ظروف ارتفاع شعبية صاحبه التي كانت تعفيه من اعترافه، خاصة بعد ان فك هو نفسه بصموده البطولي طوق الحصار الذي ضرب عليه دون ان تجني منه اسرائيل ما راهنت عليه من تركيعه واستسلامه.

يحسن التذكير بان تطلع شعب فلسطين الى اصلاح حكومته، وتقويم ادائها ظل منذ شهور ـ قبيل الانتفاضة وطيلتها ـ مطلبا استراتيجيا وطنيا ومطمحا قوميا مشروعا، وان السلطة الفلسطينية بقيادة رئيسها كانت مصممة العزمَ على مباشرة الاصلاح لولا ان اسرائيل شنت حربها العدوانية على الشعب والسلطة، وفرضت على الارض واقعا مزريا اصبحت معه مبادرة الاصلاح غير ذات موضوع.، اذ درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.

وعندما هدأ الجو نسبيا ونجح المجتمع الدولي في فك حصار الرئيس عرفات، عاد الحديث عن المطالبة بالاصلاح، وبدت مؤشرات الشروع فيه، فسطت اسرائيل على هذا المطلب الوطني واعلنته شرطا منها للعودة الى المفاوضات. وكعادتها تلقفت الولايات المتحدة من يد اسرائيل شرطها وصرح البيت الابيض بوجوب مبادرة الرئيس عرفات الى تحقيق الاصلاح. واذا كانت الادارة الامريكية لم تجعل من الاصلاح شرطا لبدء المفاوضات فانها تركت الرئىس الفلسطيني يفهم بتقديره ان هذا الشرط لا بد من توفره سواء اعتبر شرط صحة او شرط وجوب.

اما الاعلام العالمي فقد ربط بدوره بين مطلب الاصلاح وبين اعتباره شرطا من لدن اسرائيل والولايات المتحدة، وسارع الى القول ان الرئيس عرفات اضطر تحت الضغط الى الاعلان عن الاصلاح، ناسيا ان التوجه نحو الاصلاح نضج عند الرئيس قبل ان تستغله اسرائيل ويتبناه البيت الابيض.

وربما كانت الولايات المتحدة صادقة النية في نصحها بالمبادرة الى الاصلاح، خاصة وهي تختصره في تقوية قدرات السلطة الفلسطينية على قمع المقاومة التي تسميها ارهابا. اما اسرائيل فلم يكن قصدها الا التهرب من استحقاق المفاوضات لكسب المزيد من الوقت، وتضليل الرأي العام الدولي بايهامه انها جاهزة للدخول في عملية السلام، لكنها تنتظر ان تقوم السلطة الفلسطينية باعادة التنظيم واصلاح الذات. وبذلك اضافت اسرائيل هذا الشرط الى مسلسل شروطها التعجيزية التي لم يفتأ شارون منذ وصوله الى الحكم يتفنن ـ بمكر ـ في صياغتها شرطا بعد آخر.

ويبدو للعيان اليوم ان لعبة القط بالفأر التي مارسها شارون على السلطة الفلسطينية منذ 11 شتنبر والى اليوم قد افادته في ممارسة سياسة الهروب الى الامام. اذ على طول المسافة الفاصلة بين هذا التاريخ واليوم ظل شارون يصطنع المشاكل فيتظاهر بحلها بعد ان تمارس عليه الضغوط، ويكسب الوقت، ويخلق وضعا على الارض ثم يقبل التنازل عنه بعد تفاوض عسير ليكسب الوقت. وكان يعمل على ان يظهر في كل مرحلة انه رجل الاخذ والعطاء وانه يعتمد الحوار للوصول الى التفاهم بالتراضي، الى حد انه نجح في جعل الولايات المتحدة تنطلي عليها مراوغته وتشهد له بانه رجل سلام وان حكومة اسرائيل ديمقراطية.

هكذا اجتاح شارون الاراضي الفلسطينية واعاد احتلالها، وارتكب مجزرة جنين، وحاصر ما يقارب 300 شخص من المدنيين والرهبان في كنيسة المهد، وسجن الرئيس عرفات بمقره برام الله، وصعد ما وسعه التصعيد شاغلا العالم بهذه التدابير المختلقة. ولا يمكن ان يُستقْصَى كل ما ارتكب في حق فلسطين، وشغل به الناس لكسب الوقت، ليعود في كل مرة للتفاوض مع الولايات المتحدة مراهنا دائما على كسب الوقت، ثم ليعود ويعطي لكل مشكلة خَلَقها نصف حلها، بعد ان يكون عقّدها واخذ الوقت الكافي لإطالة مخاضها العسير.

يفعل كل ذلك ليسجل له انه سياسي حكيم يتقن ان يقمع ويدمر ويخرب ويسجن ويقتل في الوقت المناسب، لكنه يحسن ان يصفح ويعفو عند المقدرة ويتوب على من عصى. وحسابه في جميع الاحوال والاوضاع المزرية التي يخلقها بقصد واصرار ويلهي بها ويسوِّف بها استحقاق رفع الاحتلال حساب واحد. اليس انه ينجح في تأخير الاستحقاقات؟ ما دام يعيد نشر قواته ويسميه انسحابا، وما دام يخرج عرفات من سجنه ويمتعه بالحرية لكن داخل الاراضي المحاصرة التي قطّع اوصالها واقام فوقها فصلا عنصريا، وما دامت جميع مقررات الشرعية الدولية لا تبرح مكانها، فالاحتلال دائم وقائم، والاوضاع الزائفة التي خلقها مستمرة، والضغوط التي تمارس عليه تخف وطأتها لان المجتمع الدولي مل من تكرارها. ومن حين لآخر تخترق قواته المسلحة بلدة او مدينة او قرية من اراضي فلسطين لتداهم وتقتل وتعتقل وترجع الى قواعدها سالمة دون ان يعلو صوت للاحتجاج والتنديد بهذه الجولات التفسحية قصيرة الامد التي اصبحت تبدو هينة بالنسبة للجرائم الفظيعة المتراكمة السالفة، رغم ما تخلفه على الارض من خسارات مادية وبشرية ما اشد فظاعتها! وما اخاله الا انه يستعد للاعلان عن نجاحه في توفير الامن لبلاده يوم يحقق برنامج تصفية المقاومين كما يتمنى، وسيقول آنذاك اني فعلت فعلاتي دون ان اعطي مقابلا لذلك. وهذا منتهى السياسة المكيافيلية التي لا يمكن ان يغالَب شارون فيها.

لقد كان شارون يراهن على ان يتأخر عرفات بقبول الاصلاح ليضع الكرة ـ كما يقال ـ في ملعبه ويحمله المسؤولية في تأجيل موعد المفاوضات. لكنه خاب امله بعد خطاب الرئيس الفلسطيني، فسارع الى القول: «إن خطاب عرفات لم يأت بجديد»، مع ان الخطاب جاء صريحا في أخذ الرئيس بخيار الاصلاح كمطلب فلسطيني. ولعل الجديد الذي لم يعثر عليه شارون في الخطاب، هو ان الرئيس الفلسطيني لم يتحدث بلغة المهزوم، وانه بدا قوي الشكيمة اكثر مما سبق، مستشرف المستقبل بعزة وكرامة لم ينل حصاره وسجنه منهما قيد انملة. وذلك هو مرد الاحباط الذي مني به شارون المصاب بجنون العظمة بعد ان جاءه خطاب الرئىس من حيث لا يحتسب وبغير اللغة التي كان ينتظرها ويتمناها.

اعطى الرئيس الفلسطيني في خطابه ملامح واضحة المعالم لتوجه الاصلاح. وأعتقد انه قد بدا من الان انه يراد من الاصلاح ان يكون اطر عمل دولة فلسطين الديمقراطية التي ستعلن طال الزمن او قصر، «أحب من أحب وكره من كره» كما يحلو للرئيس عرفات ان يردد في تصريحاته وخطبه.

لكن يبقى مع ذلك ضرورة ان يتم الاصلاح الفلسطيني في ظل النظام الديمقراطي واطار دولة الحق والقانون، وان يكون شاملا للسياسي، والعسكري، والاداري.