يقظة غلبت النعاس

TT

تغيرت عليَّ مواعيد غلبة النعاس في فرنسا خلال الايام الماضية، وبدل الايواء في الحادية عشرة كالعادة اصبحت احارب الغفوة حتى الثانية صباحاً، والاسباب فرنسية وغير فرنسية في وقت واحد. فالسهر في فرنسا عادة، هو متعة السَّهار والسمار ودواعي بُعد الديار، اما هنا فهو سهر الحوار،ليلة بعد ليلة على القنوات التلفزيونية، واحدة بعد الاخرى. ندوات راقية، هادئة، عميقة، تنعقد حول قضايا الساعة، خصوصاً الاسلام في اوروبا. ومحاورون، اختصاصيون، عالمون، هادئون، عارفون. ولا زعيق. ساعتان، ثلاث ساعات، وبلا اي مزًّعق او صياًّح او نياَّح او سفيه. ومهلا، مهلا، لا ليس صحيحاً انه لم يكن بينهم عرب. لقد كان العرب ألمعهم وافصحهم (بالفرنسية) ولكن بلا زعيق وغالبين.

بلا شتيمة واحدة بلا توصيف، وبلا دعوات الى هدم الدور والقصور وكل ما هو حسن وبنّاء وخيَّر. وقد شعرت باعتزاز وانا اصغي الى عرب «نُخَب» مثقفين مؤدبين، من الجزائر والمغرب، يشرحون الاسلام بالمنطق، يفندون المزاعم الغربية بالحقائق، يبسطون الفكر العربي بقدرة الاقناع وطاقة المقنعين. وكان يصعب عليّ، كل ليلة، ان آوي الى فراشي قبل ان تطفأ الاضواء في الندوة ويتعب المتحاورون. او لعلهم لا يتعبون وانما الوقت قد دهم، فليس في المنطق ما يتعب، ولا في الحجة ما يغضب. وغاية النقاش هي الدفاع لا القتل، ونشر المعرفة لا تعميم الزعيق، واظهار قدرة المحاور لا تأديب الخصم بالهراوات ولا مطاردته بالشتائم، حتى داره ودياره.

وافضل واجمل وانبل ما في هذه الندوات، انها لم تكن مفتوحة للاتصالات الخارجية، خصوصاً للسادة المتصلين في السويد الذين يتميزون، لسبب او لآخر بحناجر حادة ومعارف ضئيلة وتمتع بالسب، ولم اصدق نفسي قبل اسابيع وانا اسمع رجلاً من اوروبا يقول لبرنامج «الاتجاه المعاكس»: «من المحيط الثائر الى الخليج العاهر». وآسف بعمق شديد لاعادة استخدام هذه الشتيمة. لكن طه حسين كان يقول انك لا تستطيع ان تكتب عن أبي نواس الا باثبات شيء منه. لم اصدق نفسي، لاسباب كثيرة، اولها ان مثل هذا التعبير لا يستخدم في مجلس او مقهى فكيف ملء الفضاء. وثانياً، لان محطة «الجزيرة» تبث من قطر، الواقعة في عرض الخليج. وثالثاً لان المحيط الثائر، لم يعد كذلك تماماً، الا اذا كان المقصود بالثورة ذبح الاطفال ونسف المدارس واحراق القرى. ولا يزال هذا الخليج الـ... يمتاز عن جميع بلدان الوطن العربي الكبير، بان ليس في شوارعه متكفف واحد، ولا في بيوته جائع واحد، ولا في سجونه سياسي واحد. وخصوصا، خصوصا، ان جميع العرب الذين يملأون مكاتب البطالة في اوروبا، وخصوصاً خصوصاً في السويد، جميع هؤلاء ليس بينهم واحد من الخليج. جميعهم من المحيطات الهادرة. وبمئات الالاف. وفي ايرلندا وحدها كان عدد طالبي اللجوء العام 1995 نحو 130 شخصاً. الآن هناك عشرة آلاف، جميعهم ينشدون ـ بدون استثناء ـ قصيدة البارودي الشهيرة: بلاد العرب اوطاني وجميعهم يتصلون «بالجزيرة» ليشتموا... الخليج؟ هذه العقبة الكؤود في وجه حرية العرب واستقلالهم ورفاههم.