الصمود.. الصمود

TT

زارني قبل ايام صديق قديم حضر لندن للمعالجة الطبية. كنا نتناول الغداء عندما بدأت البي بي سي ببث مسلسل (آل آرتشرس). قال: الله، للآن يذيعون هذا البرنامج؟ هذا كنا نسمعه في الخمسينات، دخلنا في مناقشة حول الاستقرار والاستمرارية. قلت له ولماذا تستغرب يا صديقي؟ مهما بالغوا في تشبثهم بالماضي والاستمرار فلن يبلغوا عشر ما نفعله نحن. فأنا ايضا كلما ذهبت الى بلد عربي وفتحت الراديو سمعت نفس الكلام الذي كنت اسمعه في ايام طفولتي. جرت حرب عالمية، سقطت انظمة وجاءت انظمة، ذهب الانكليز وجاء الامريكان، وتقسمت فلسطين واضعنا حتى القسم العربي، والكلام هوهو لم يتغير منه شيء. نفس برقيات الاحتجاج والشجب ولا شيء سواها، حتى اخذ البعض يسموننا ببني يشجب.

اين تجد مثل هذه الاستمرارية والثبات في العالم؟ الحكومات تذهب وتجيء، الوزارات تسقط وتتشكل، وحتى المذيع وكاتب التعليق ومدير الاذاعة والبواب الواقف عند الباب وصانع الشاي يتغير ويموت. ومع ذلك تفتح الاذاعة أي يوم تشاء واستمع واندهش. نفس الكلام.

كيف يجري ذلك؟ ما هو السحر وراء هذه الاستمرارية العجيبة و الثبات المنقطع النظير؟ انا واثق ان بنك انكلترا يحسدنا على هذا الاستقرار والديمومة. وماذا عن بنك انكلترا الذي يتباهون به؟ افتح الراديو اليوم فتسمع عندهم تضخم نقدي 4 .2 بالمائة. بعد اسبوع واحد ستجدهم يغيرون رأيهم فيقولون 3 .2 بالمائة. بل احيانا يغيرون ارقامهم بين نشرة اخبار الصباح ونشرة اخبار المساء. ولا حتى يعتذرون للمستمعين. كأن التغير شيء طبيعي لا احد يستحي منه. شغلة تطير المخ. اين ذلك من جمهورنا الصامد المخلص لمعتقداته وافكاره؟ الى الآن والناس يعتقدون ان الارض منبسطة.

مبروك على بنك انكلترا وهو يشغل بال الناس بالتضخم النقدي. عندنا لا تسمع حتى بوجود هذه الظاهرة. بالطبع لا يعني ذلك عدم وجود نقدي في البلاد او ان الفاصوليا لم يرتفع سعرها من خمسين فلسا للكيلو الى خمسين دينارا، ولكن الاذاعة كمؤسسة تمثل السيادة والصمود القومي تسمو فوق هذه الترهات والمسائل التفصيلية. انها تركز على الامور الاساسية مثل برقيات التهاني والتعازي ورسائل التأييد وطلبات المستمعين والمنتخبات الشعرية ونشرات الانواء الجوية التي لا تفل عزيمتها على الصمود في التأكيد للشعب يوما بعد يوم ان السماء ستكون صافية والريح معتدلة. والواقع ان الجو ايضا يتمسك بفكرة الصمود فتبقى السماء فعلا صافية والريح معتدلة. قلما حادت عن ذلك. يا ما اسعد موظفي الانواء الجوية عندنا.

ارتجت مصر قبل اشهر لقيام التلفزيون ببث مسلسل عن رجل متزوج بأربع زوجات. يا للهول، كيف تخرج عن المألوف؟ المألوف الذي سارت عليه الأفلام العربية لسبعين سنة؟ معلهش ان الرجل خرج عن المألوف، ولكن الفيلم العربي والأدب العربي والتلفزيون العربي يجب ان تمثل الصمود وتنأى عن التغيير.

هل قلت الصمود؟ يظهر انني ايضا وقعت في دوامة الصمود، وإلا فالمقصود حقا هو الجمود. وهل قلت التغيير؟ ام كنت اعني التفكير؟!