شارون: لبنان وسوريا.. بعد فلسطين

TT

كما سعى الفلسطينيون الى اعادة انتاج النموذج اللبناني في مقاومة الاحتلال الاسرائيلي فأطلقوا انتفاضتهم الثانية، يسعى ارييل شارون الى اعتماد مخططه في قمع الانتفاضة ليطبقه على كل من لبنان وسوريا.

وكما تسعى اسرائيل الى فرض شروطها على السلطة الفلسطينية في شأن المؤتمر الاقليمي، فإنها تطلق شروطها في وجه لبنان وسوريا، في حين انهما ما زالا يرفضانه ويتمسكان بمرجعية مؤتمر مدريد.

يتصرف ارييل شارون وكأن الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين خسروا معا المواجهة العسكرية، ولا سبيل لهم سوى الاستسلام عبر المؤتمر الاقليمي الذي عرضه عليهم.

صحيح ان ارييل شارون هو صاحب مشروع المؤتمر الاقليمي، وصحيح ايضا انه حدد سلفا شروط انعقاده، لكن الاصح انه لا جدوى من مؤتمر معني بالتسوية في الشرق الاوسط لا تحضره سوريا ولبنان ويُستبعد أو يُغيب عنه ياسر عرفات.

وفي نظري ان شروط ارييل شارون ليست سوى محاولة لابتزاز الموقفين اللبناني والسوري. فهو يشترط على لبنان «تفكيك» حزب الله ونشر الجيش اللبناني على الحدود. ويشترط على سوريا «طرد» المنظمات الفلسطينية منها والانسحاب العسكري من لبنان.

ويعزز هذه السياسة الابتزازية موقف الادارة الاميركية التي ما برحت تدعم مخططات ارييل شارون العسكرية في كل المجالات وتنحاز الى مشاريعه السياسية في طرح الحلول المستحيلة. ويخيل اليّ ان واشنطن تخطط مع تل أبيب للدخول الى المؤتمر بتسوية مؤقتة والخروج منه بتسوية دائمة. وما الشروط التي يضعها ارييل شارون على سوريا ولبنان الا محاولة منه لحسم المسائل الامنية لصالح اسرائيل قبل بدء المؤتمر على غرار ما فعله مع الفلسطينيين.

ويبدو ان ارييل شارون يعمل على اساس تكرار تجربته في الضفة الغربية مع سوريا ولبنان. فهو لا يفاوض ياسر عرفات الا بعد ان يبرهن هذا الاخير عن نيته وقدرته في ضمان أمن اسرائيل، وهو يأمل الا يفاوض مع لبنان وسوريا الا بعد ان يثبتا نواياهما حيال الأمن الاسرائيلي.

ولا يميز رئيس الحكومة الاسرائيلية وضع الفلسطينيين في الضفة الغربية ووضعي لبنان وسوريا. فهو ينسى أو يتناسى بأن لبنان حقق منذ سنتين انتصاراً لا سابق له على الجيش الاسرائيلي الذي انسحب من معظم ارضه من دون مقابل، وان سوريا صامدة في وجهه ولا تقبل التفاوض معه إلا على أساس استرجاع كامل الجولان الى حدود الرابع من حزيران (يونيو) 1967. ولا أدل على خلط ارييل شارون بين وضع الفلسطينيين ووضعي لبنان وسوريا سوى طرحه حول أمن اسرائيل. فمقابل نظرية الامن يتعمد من جانبه عدم التطرق الى موضوعي السلام والارض، وكأنه يريد تحقيق الامن لاسرائيل من دون تقديم اي تنازلات، ومن دون اعطاء أي ضمانات للانسحاب من الاراضي العربية المحتلة.

غير ان أوهام ارييل شارون لن تتحول الى وقائع في أي من الظروف، ولا شيء يجبر لبنان وسوريا لأن يخضعا لابتزازه. فالمؤتمر الاقليمي لا يعنيهما بالشكل ولا بالمضمون، وما يعنيهما هو العودة الى مؤتمر مدريد والى الأسس والمبادئ التي قام عليها.

صورة ارييل شارون في ذهني كمن ينفخ في الهواء. يضع شروطا على لبنان وسوريا لجهة حضورهما المؤتمر الاقليمي وهما في الاساس مصممان على عدم حضوره، من دون أي احراج في ظل اجماع عربي على الالتزام بالمبادرة العربية للسلام التي اقرتها قمة بيروت.

ولكن ما يقلق لبنان وسوريا في الوقت الحاضر ليس المؤتمر الاقليمي، بل الهجمة الأمنية الرامية الى ضرب رموز موالية لسوريا في لبنان. فقبل نحو ثلاثة أشهر، وقعت جريمة اغتيال الوزير اللبناني السابق ايلي حبيقة، وفي أوائل هذا الاسبوع، حصلت جريمة اغتيال المسؤول الفلسطيني جهاد أحمد جبريل، وكل منهما ارتبط بعلاقة وثيقة مع سوريا.

وفي ظني ان ارييل شارون هو وراء اغتيال كل من الرجلين. كان ايلي حبيقة يتحضر للدفاع عن نفسه أمام المحاكم البلجيكية في ملف مجزرة مخيمي صبرا وشاتيلا في عام 1982، وكان يجهد لحصر الاتهام بارييل شارون من حيث التخطيط للعملية وتنفيذها، وكان يملك العديد من الادلة في هذا الشأن.

أما جهاد جبريل فكان مسؤولا عن قطاع فلسطين في الجبهة الشعبية ـ القيادة العامة والذي عاون حركتي حماس والجهاد الاسلامي في تنظيم عمليات الانتفاضة الفلسطينية. وتشير المعلومات اللبنانية الى انه هو من دبر اطلاق صواريخ الكاتيوشا من الاراضي اللبنانية باتجاه اسرائيل ابان الاجتياح الاسرائيلي الاخير للضفة الغربية.

ففي الوقت الذي يدعو فيه ارييل شارون الى عقد مؤتمر اقليمي بشروط مرفوضة مسبقا من قبل لبنان وسوريا، فإنه يمارس سياسة الاغتيالات والتصفيات ضد قيادات فلسطينية في لبنان أو قيادات لبنانية موالية لسوريا على غرار ما فعله في فلسطين. فمثلما لاحق ارييل شارون قيادات الانتفاضة الفلسطينية بطائرات الهليكوبتر والمتفجرات والسيارات المفخخة في الداخل، فهو يلاحق القيادات اللبنانية والفلسطينية بالسيارات المفخخة في الخارج. وقد يلاحقهم غداً بطائرات الاباتشي اذا لزم الامر، كما جرى ضد قياديي «حزب الله» منذ سنوات.

الحرب الأمنية والاستخباراتية لا تزال مفتوحة على مصراعيها في الشرق الاوسط، ولبنان لا يزال مرشحا ليكون الساحة الرئيسية لهذه الحرب. ولا بد من ان تقوم الدولة اللبنانية بواجبها الأول المتمثل بمنع عودة لبنان «ساحة» لتصفية الحسابات والصراعات الاقليمية على أرضه.

ولا اعتقد ان لبنانيا واحدا يقبل أو يتحمل بأن تعود حالة الفوضى الأمنية الى لبنان. واللبنانيون يطالبون الاجهزة الامنية بالكشف عن الفاعلين تحت طائلة التقصير، وهم يصرون على المزيد من الحسم ضمانا ليس فقط للأمن بل للاقتصاد ايضا، ذلك ان هناك احتمالا كبيرا بألا تكون عمليتا اغتيال ايلي حبيقة وجهاد جبريل سوى البداية، والآتي قد يكون أعظم.

وفي تصوري ان كل شيء مسموح ومحمول في لبنان باستثناء اللعب بالأمن والاستقرار، وأرى اجماعاً لبنانياً حول ضرورة منع الاختراقات الأمنية شبيهاً بما حصل في الأمس من اجماع على ضرورة وقف الحرب الداخلية ودعم المقاومة ضد اسرائيل. ولا عجب في الأمر، فإن الولايات المتحدة، رائدة العالم الحر، لم تتردد في فرض نظام أمني متشدد بعد عملية 11 سبتمبر (ايلول)، وهي تشن الحرب على ما تسميه «الإرهاب» في أي مكان من العالم للحيلولة دون وقوع اعتداءات جديدة في المستقبل على أراضيها.

وكما يحق للولايات المتحدة ان تكافح «الإرهاب» بكل الوسائل، فإنه يحق للبنان مكافحة «الإرهاب الإسرائيلي» بكل الوسائل أيضاً. وأول شرط من شروط المواجهة مع اسرائيل هو الوحدة الوطنية اللبنانية، وهذه مسؤولية الحكومة والمعارضة على حد سواء.