متى نلتزم خيار الفن الاستراتيجي؟!

TT

المخرجون السينمائيون العرب، يستحقون ما هو افضل من سياسة القمع والتبخيس والتهميش، وطحن قواهم وتحويلهم متسولين على أبواب المؤسسات الاوروبية لاستجداء تمويلات افلامهم. فوصول ستة من هؤلاء المكافحين الأشاوس، بعد اختراق مختلف الحواجز، الى «مهرجان كان» هذا العام، يعتبر بمثابة حدث تاريخي، لم يسبق له مثيل، على مدى خمسة وخمسين عاماً من حياة التظاهرة السينمائية الأضخم من نوعها في القارة العجوز.

وقد بات واضحاً ان فيلماً واحداً من وزن «يد إلهية» أوصل فلسطين (للمرة الاولى) الى المسابقة الرسمية في المهرجان وحاز جائزة لجنة التحكيم، هو أنجع مئات المرات من بيانات الشجب والتنديد. اذ تحول مخرج الفيلم إيليا سليمان، بفضل عمله (لا ثرثرته) والصدى المدوي الذي حصده الى ناطق، مسموع الكلمة، باسم شعبه وقضيته، وشرعت له كبريات الصحف العالمية صفحاتها ليقول مشاعره من دون اضطرار ـ كما هو حال حكامنا ـ لمواربة دبلوماسية او مهادنة مهينة يفرضها ضغط سياسي.

الى جانب ايليا سليمان وفيلمه الذي كسف حضوره بجدارة فيلم «كيدما» للإسرائيلي عاموس غيتاي (وهي مشاركته الثالثة في المسابقة الرسمية) كان فلسطيني آخر، هو أحمد أبو سعد يفتتح اسبوع النقاد بفيلمه «القدس يوم آخر»، وعرب آخرون يعرضون انتاجاتهم ليشكلوا، بذلك، ما يشبه انتفاضة للسينما العربية، هي بمثابة امتداد رائع لانتفاضة اخرى في الاراضي المحتلة.

وقبل ان يحتج احد على هذه المقارنة غير اللائقة بين انتفاضتين، إحداهما تنزف دماً، والاخرى ترشح خيالاً، يجدر التذكير بأن المعارك، في عرف من يسجلون انتصاراتهم علينا، كانت دائماً، شمولية وعلى كل الجبهات، بينما لا نرى فيها، من ناحيتنا - ولذا نخسرها باستمرار - سوى ضرب وطعن واطلاق صواريخ وتصريحات رنانة تبقى كإيقاعات طبل أجوف.

لقد فتحت اسرائيل جبهتين متضادتين ومتكاملتين، في هذا المهرجان، فمن ناحية حرضت اليهود الاميركيين على مقاطعته متذرعة بما تسميه تصاعد اللاسامية في فرنسا، ومن ناحية ثانية هرعت لتشارك بفيلمين محاولة انتزاع تتويج دولي لفنها السابع. لكن الفلسطينيين كانوا هناك، هذه المرة، وبدا النتاج الاسرائيلي باهتاً امام صدق الصورة الفلسطينية وحنكتها. وكتبت صحيفة «لوموند» عن حرج النقاد الاسرائيليين، وتهربهم من التعليق على فيلم إيليا سليمان بعد عرضه «لأن اسرائيل لا تحب ان تنشر غسيلها الوسخ على الحبال» بحسب تعليق احدهم. ولأن «يد إلهية» كان مخجلاً ومربكاً بالنسبة لهم. واعترف مراسل جريدة «معاريف» بعد العرض: «ان فيلماً بصفاء ما قدمه سليمان، يفتح اعيننا على ما آلت اليه حياتنا اليومية، ويجعلنا نخرج منه محبطين». واضاف المراسل: «مرّت لحظات، خلال العرض، وددت اثناءها لو اواري وجهي تحت المقعد، خاصة وانا ارى تلك المشاهد على حواجز التفتيش العسكري الاسرائيلية».

ردود الفعل المشجعة على فيلم سليمان وزملائه العرب في المهرجان، مثيرة ومفرحة واستفزازية في آن واحد. اذ ما سر تبذير الحكومات العربية لدرجة الافلاس، على مجالات عقيمة كالتسلح، ما دامت تعتبر السلام خياراً نهائياً، وترى بأن اخراج السلاح من مخابئه هو من المستحيلات؟ وما الحكمة من قهر الثقافة، وضمنها السينما، وحرمانها مالياً، حد خنقها وكتم انفاسها، على ما يمكن ان تحققه من انجازات؟ او ليس محزناً ان يهدر المخرج السوري اسامة محمد اربعة عشر عاماً بعد فيلمه الاول، ليتمكن من تمويل فيلم ثان هو «تضحيات» ـ والاسم بحد ذاته دال وبليغ ـ ليستحق بفضل قيمته الفنية، ان يعرض في «كان» منذ أيام. وكم من فيلم يستطيع مخرج ان ينجز في حياته، اذا كانت ولادة واحدها، تحتاج هذا الثمن الباهظ من السنوات؟

ان الاسلحة انواع لا حصر لها. والسينما سلاح ذو ذاكرة. والذاكرة ترعب اسرائيل وتهددها حين تصبح ناطقة وحكواتية وسلسة. فقد قال افلاطون يوماً «ان اؤلئك الذين يروون القصص يحكمون العالم». وهو ليس بمخطىء، فالحكايات أقوى من الاخبار التي غالباً ما تثير الريبة من الدسيسة. والذين يقصّون ما عندهم بالكلمة والمشهد والموسيقى يتسللون بحيوية الى اللاوعي، بينما يبقى الكلام المباشر ثقيل الظل وموضع اخذ ورد. الفيلم له هدير همسات الجدات الدافئة والاختراقية في الليالي الشتوية الخالية الا من حكاياهن، وهي تفرض نفسها، وكأنها الحقيقة الوحيدة المتبقية لنا من صمت الدنيا. وعلى منوالهن الساحر هذا، ينسج السينمائي، حين يجعل الآخر، طوال فترة العرض، لا يرى الا بعينيه ولا يسمع الا صوته، من خلال عدسته ومكبراته، قابضاً بفضل ظلام الصالة وهدوئها واستنفار حواس المشاهد، على سلطة التفرد بتشكيل العالم على هواه، وتقديمه لذائقة عندها اشتهاء طفولي للتلقي.

السينما خبيثة ولو تظاهرت بالبراءة. الفن خبيث كله، مكره جميل ومحبب لا بل ومطلوب وله جماهيره الغفيرة. ومع ذلك لم يدرك العرب اهمية امتلاك مفاتيح اللعبة الفنية وأبعادها وتأثيراتها. وبعد سبعين سنة، على الاقل، من بدء تنميط الشخصية العربية، في السينما الغربية، دون رد سينمائي عربي مناسب في المقابل، يسأل الغيارى: «لماذا مشوهة هي صورتنا في الغرب؟». العربي ما يزال في ذهن الغربي وكأنما هو طالع للتو من الف ليلة وليلة، او من مكان عفن ومشبوه. فهو إما غني متهتك وزير نساء، او ارهابي سفاح، عديم الخلق. اما المرأة فإن لم تكن غائبة فهي شبح مغيب خلف حجاب. ولمقارعة سلطة الحكاية بحكاية توازيها، فإن الثقافة مجسدة بأدواتها سينمائية وغير سينمائية هي الجواب.

اختار العربي، كرهاً او طوعاً، ان يبقى أبكم، لا ينطق بلغة لها ايقاع، ووقع، وشروط اللغة التي يحارب بها. فأنت لا تستطيع ان تجيب من يجرحك بخنجر قصة طويلة ومحبوكة، تدميك ألماً، لشدة ما تشبهك وتشوهك وتشتمك بأن تقول لراويها: «إخرس»، وكفى. وإنما الجواب يجب ان يكون له المكر الفني ذاته الذي هوجمت به. وهكذا فقط، تستطيع ان تجرِّد محدثك من إحساسه بالفوقية الابتكارية وتعزز شعورك وشعوره بالقدرة على مجاراته، والاقتصاص من نذالته.

قال إيليا سليمان عن فيلمه «انه وثيقة لكنه ليس بالتأكيد توثيقياً». وهو كلام ذكي، فكل الاعمال الفنية هي وثائق، تتفاوت قيمتها بحسب براعة مبدعها. ونحن اخترنا بسبب هذا البخل على الثقافة، والرعب من الثقافة، والاحتقار للثقافة، ان نتخلى ـ رغم امكاناتنا ـ عن حقنا في استصدار الوثائق ذات المستوى المعترف به دولياً، والتي تخولنا عبور المطارات والمهرجانات والرأي العام العالمي. وقررنا، إما حمقاً او خبثاً، وكلاهما قميء، ان نكتفي بوثائق لاجئين، لا تمنحنا مشروعية التنقل الا من خيمة الى خيمة.

[email protected]