التطرف في المغرب

TT

أجدني عرضة طيلة العشرية الماضية، وحتى اليوم، لتلقي سؤال ملح حول وجود خطر التطرف في المغرب. في الأسبوع الماضي وجدتني أتلقى نفس السؤال من باحث بريطاني يهيئ دراسة عن المجتمع المدني في المغرب وعلاقته بالأحزاب السياسية. ووجدتني أقول له ردا على سؤال حول الاحتمالات الممكنة، إن التطرف يأتي من القمع أو من الفراغ. والمسيرة السياسية في المغرب عرفت القمع وقد تخلصت منه، وهي تتسم اليوم كما بالأمس، بأنها لم تعرف الفراغ. لقد وقع التطرف في بلدان أخرى مشابهة، كرد فعل على القمع أو على احتكار المبادرة السياسية من لدن الحزب الوحيد فيها، أو على كل هذا ممزوجا بالتذمر الاجتماعي الاقتصادي. وحينما وقع التوجه إلى إقامة الديموقراطيا، في أواخر الثمانينات، انبرت القوى المكبوتة التي لم يكن لها من سبيل إلى المشاركة في الحياة السياسية، لاكتساح المجال، وملأت كل الفضاء الذي تركه احتكار المبادرة السياسية من لدن الحزب الوحيد الذي آل إلى هيئة بيروقراطية معزولة عن المجتمع.

لقد رأينا في حالة معينة، كيف أن الحزب الوحيد حينما قبل المبارزة الانتخابية، كان نصيبه نصف مليون صوت أمام أكثر من ثلاثة ملايين صوت كانت من نصيب التيار الذي استقطب جل أصوات الاحتجاج. ويجب القول إن النمط لم يكن موحدا. ففي تونس مثلا لم يكن هذا هو حال حزب الدستور. فقد ظل الحزب متغلغلا في المجتمع، وحينما اعترف بأن هناك من التونسيين من لا يقبل أن يكون دستوريا بالولادة، أقر بالتعددية، ولكن ظل حجمه في المجتمع قويا ومتمكنا.

في المغرب، رغم القمع، ورغم حالة الاستثناء، كانت هناك دائما تنظيمات سياسية متنوعة تؤطر الشارع، تلقت أشد الضربات نعم، وضعف تأثيرها أحيانا نعم، ولكن مصداقيتها وصلاحيتها لتمثيل نبض الشارع، بقيتا قائمتين سواء في عين الشارع أو عين صاحب القرار. وحينما وقعت المحاولتان الانقلابيتان في 1971 و1972 من جانب العسكر، وكاد المغرب يدخل في متاهة الانقلابات، كان كافيا أن يسمع الشعب في الراديو أن الملك دخل في حوار مع الأحزاب (الكتلة الوطنية حينئذ)، ليهدأ الشارع ولينتظر نتيجة ما يدور. وحينما تم الإقدام في التسعينات على مسلسل الإصلاح السياسي والدستوري الحالي، تحت تأثير مؤتمر بول وقبل كل شيء بتأثير تفاعلات داخلية، كانت هناك بفضل وجود مخاطبين لهم مصداقية، أدوات مكنت عبر التفاوض مع الأحزاب، من اجتياز الانتقال الديموقراطي بتناغم أكبر مما حدث في بلدان أخرى مماثلة. بل حدثت الخلافة أثناء ذلك في سلاسة وسكينة، ميزها عن غيرها أنها حدثت في جو قبول نتائج تحديات الانفتاح والتعددية، وتبلورت التجربة المغربية يحفها التوافق على مزيد من الديموقراطيا، وضبط الساعة المغربية على التوقيت العالمي.

منذ الستينات تعلم المغاربة كيف يسوون تناقضاتهم، بالتراشق بأوراق الاقتراع، بدلا من العنف. وفي الوقت الراهن هم يتوجهون إلى استحقاقات سبتمبر القادم بمعنويات أفضل، يتطلعون إلى أن تكون الانتخابات هذه المرة، أسلم من سابقتها، ليتأتى إثبات أن المراهنة على تسوية التناقضات عبر التراشق بأوراق الاقتراع هي في محلها. ومع ذلك ففي أي ممارسة سياسية لا يستبعد ظهور تطرف. أي وجود قوى تدفع إلى فرض وجهة نظرها، بغض النظر عن معطيات الواقع. أي أن التطرف قد يأتي ليس بسبب القمع أو الفراغ، بل بوجود حالة قطيعة مع ما هو قائم. يميل محللون اجتماعيون إلى تغليب المقاربة التربوية، كوسيلة لتلافي التطرف، فيدعون إلى تحصين المجتمع بتلقين قيم التعايش والتسامح والعقلانية في مناهج التربية. وكان السفير الأخضر الإبراهيمي قد علق على حادث اغتيال الزعيم الأفغاني أحمد شاه مسعود على يد «مجاهدين» مغاربيين، بالتساؤل عن النظام التربوي الذي أنتج الانتحاريين اللذين نفذا تلك العملية، ملوحا بضرورة مراجعة الأنظمة التربوية التي تفرخ نماذج متطرفة من ذاك القبيل. نعلم الآن من الكتاب الذي صدر عن اغتيال مسعود أن أحد الفاعلين خريج معهد علوم الإعلام، وتخصص في التلفزيون، والتحق بالجامعة الكاثوليكية في بلجيكا، وأن التحول الذي طرأ عليه قد وقع في المهجر، مثل كثير من الشبان الذين يعزى لهم تدبير تفجيرات 11 سبتمبر في نيويورك. وهؤلاء بدورهم كانوا مثل أشباههم ممن جرفهم التطرف، متعلمين في مدارس عليا، وكثير منهم درس العلوم الدقيقة، ولا يشتكون من عوز، ويشتركون في أنهم تعرضوا للإصابة بالتطرف وهم في المهجر. أي في حالة صدمة ناتجة عن الوعي بالهوية.

وهذا هو حال الزوجة المغربية لأحد قاتلي مسعود، التي كانت لها قبل يقظتها على الهوية، سيرة مضطربة تحاكي سيرة غيلانة بطلة «الضوء الهارب» للروائي المغربي محمد برادة. ولكن مليكة الطنجية (من طنجة) زوجة التونسي دحمان، ذهبت بها ظروف اكتشاف الهوية وهي في المهجر، ذهبت بها بعيدا إلى فيافي أفغانستان، إلى أن جاء من يخبرها بأن زوجها «قد قتل مسعود وسيذهب إلى الجنة إن شاء الله». للتطرف أكثر من سبب. ومنه بالطبع التعليم، الذي إما أن ينتج كائنا منغلقا، وإما أن يكسب المرء وعيا واقعيا بذاته وبالعالم. ولكن ليس التعليم هو كل شيء. فالتطرف حالة تؤدي إليها الحاجة إلى التعبير عن مطالب لا يمكن الوصول إلى تحقيقها عبر الحوار، أو بسبب انعدام أدوات للحوار. وأكثر أمثلة التطرف التي نلحظها، ترجع إلى الخصاص الديموقراطي، أي انعدام المشاركة.

كثير من الملاحظين الأجانب يرددون منذ أكثر من عشر سنوات، أن نجاة المغرب من التطرف هي حالة مؤقتة. ويراهنون على أن هذا المؤقت لن يدوم. وليس قليلا عدد الصحافيين الغربيين الذين يتفرسون جيدا في البعد الاقتصادي الاجتماعي، والبعد الإسلامي وحتى البعد الأمازيغي، لعلهم يجدون في أي من هذه الأبعاد محركا لتفجير الأوضاع. ثم يستغربون كيف لم يحدث الانفجار، وكثير من أسبابه متوفر.

ويمكن القول إنه لا توجد جهة بعينها محتكرة للتعبير عن انشغالات الشارع. الشعبوية التي يمكن أن تتصدى للنطق باسم التذمر، منتحلة هذا الخطاب أو ذاك، متنوعة في مشاربها. لقد أفرزت طبيعة التركيبة المغربية، أن الإسلامويين لا ينفردون بالتعبير عن الاحتجاج، كما أن الدفاع عن الثقافة الأمازيغية لا يقوم على أساس حمل بطاقة فصيلة الدم. ودون الاطمئنان إلى رضى عن النفس قد يكون خادعا، يمكن القول إنه طيلة العقود التي مرت، وبالخصوص في غمرة تبلور المسلسل الديموقراطي، ظهر ما ثبت دائما، وهو أن المغاربة يعرفون قيمة ما كسبوه بالاعتدال، ويحسنون استعمال ما جبلوا عليه من ميل إلى التفاوض ونشدان التوازن في المصالح، والتوسل إلى ذلك بالواقعية. إنهم مشبعون بثقافة الحوار والتفاوض. وهذا ما كفل لهم التعايش طيلة قرون تدربوا فيها على الاعتراف بتنوعهم، وتحمل نتائج ذلك التنوع. وأخيرا فإنه بفعل قوة الشعور بالانتماء للدولة، ككيان وطني قائم منذ قرون، تظل مختلف الظواهر التي تتكون، مثل أنهار المغرب، منابعها ومصباتها غير مشتركة مع الغير، كما نوه الحسن الثاني رحمه الله في إحدى خطبه، فهي لا تستمد قوتها من الخارج. وبقدر الارتباط بالخارج، تقل الحظوظ في الداخل، ويمكن السعي لإحداث صدى في الخارج، لكن غير مقبول أن يكون الداخل صدى للخارج.