مفهوم التنوير ومدلولاته في الفكر الأوروبي

TT

يرى الباحث البلجيكي البروفيسور «رولان مورتييه»، ان القرن الثامن عشر هو أول عصر في التاريخ يشعر بذاتيته، وكيانيته، ووحدته، كما يشعر بأنه مكلف بتأدية رسالة مهمة للبشرية هي: التنوير. انه أول عصر يبلور لنفسه برنامج عمل واضح المعالم من خلال كتابات الفلاسفة ومعاركهم الفكرية. ومصطلح التنوير يعود إلى هذا العصر بالذات. ولكي نفهمه، ينبغي أن نقارن الأنوار/ بالظلمات، أو الواضح/ بالغامض. ولكن المصطلح يحتوي أيضا على معنى أخلاقي وابستمولوجي (أي معرفي).

فالتضاد الكائن بين الأنوار/ والظلمات، يشبه ذلك الذي نجده بين الخير/ والشر، أو الحقيقة/ والخطأ، أو المعرفة/ والجهل. ويبدو أن المصطلح كان في البداية ديني المنشأ قبل أن يَتَعَلْمَن على يد الفلاسفة في عصر العقل: أي في القرن الثامن عشر بالذات. ففي «سفر التكوين» مثلاً نجد العبارة التالية: «ثم وجد الله أن النور حَسَن، وفصل بين النور والظلمات». وبما أن الله هو خالق النور، فإنه وجد فيه أنبل صفاته. ولذلك فإن الله يدعو نفسه في التوراة «بالنور الأبدي». ووجهه يضيء أو يلمع، وكلامه مصباح أو نور.. ثم جاء الانجيل واستعاد نفس الصورة عندما قال المسيح عن نفسه: «أنا نور العالم: من يتبعني لن يمشي أبداً في الظلمات، وإنما سيكون له نور الحياة».

ويقول البروفيسور مورتييه مردفاً: ثم استمر هذا المفهوم الديني طيلة العصور الوسطى في كتابات اللاهوتيين المسيحيين والصوفيين وأصحاب التقى والورع، وهو يدل على الوحي المنير أو الإشراقي الذي يضيء للإنسان طبيعته، وغاياته في هذه الحياة الدنيا ثم الآخرة أيضاً، وكذلك الواجبات المترتبة عليه. وراح اللاهوتيون يتحدثون عن «النور الإلهي» أو «نور الإيمان» الذي يتجلّى لبعض الشخصيات الاستثنائية في التاريخ، كالأنبياء وكبار الصوفيين. ولكن المصطلح قد يدل أيضا على التراث الديني للكنيسة المسيحية، ولذلك قال بعضهم: ان أنوار الإيمان والانجيل بدَّدت ظلمات الجنس البشري وعماه.

والآن نطرح هذا السؤال: كيف انتقل هذا المصطلح الشهير من المعجم الديني القديم، إلى المعجم الفلسفي الحديث؟ بمعنى آخر: كيف تَعَلْمَن أو تَعَقْلن، وعلى يد من؟ يبدو أن ديكارت (1596 ـ 1650) كان أول من استخدم مصطلح التنوير (أو النور) بالمعنى الحديث المفصول عن المعنى الديني، أو الانجيلي. فهو يتحدث مثلا عن النور الطبيعي، الذي يقصد به ما يلي: مجمل الحقائق التي يتوصل إليها الإنسان عن طريق استخدام العقل فقط. ولكن ديكارت، لا يستخدم هذا المصطلح كسلاح ضد الدين أو بالأحرى ضد رجال الدين كما سيفعل في ما بعد فولتير أو ديدرو. إنما يستخدمه ضمن سياق الاحترام الكامل للقيم الدينية. يقول مثلا في كتابه: مبادئ الفلسفة: ان مَلَكة المعرفة التي وهبنا اللّه إياها والتي ندعوها بالنور الطبيعي لا تلحظ أبداً أي شيء الا وهو صحيح في ما تلحظه.. وجاء بعده لايبنتز (1646 ـ 1716)، لكي يستعيد نفس الفكرة ويقول: إن العقل هو سلسلة الحقائق التي نعرفها بواسطة النور الطبيعي (أو الضوء الطبيعي) الذي وهبنا الله اياه، لكن من بين جميع تلامذة ديكارت نلاحظ أن مالبرانش (1638 ـ 1715) هو الذي استخدم المصطلح وأحبه إلى درجة الهوس.. فهو يتكرر لديه بكثرة هائلة إلى حد أنه يزاحم مصطلح الطبيعة أو العقل.

والشيء المدهش لدى رجل دين كبير، مثل مالبرانش، هو أن المصطلح يتفوق لديه على مصطلحي العدالة والخطيئة. لنضرب هنا بعض الأمثلة على كيفية استخدام هذا المصطلح لدى مؤلف كتاب «البحث عن الحقيقة»: «ينبغي على الإنسان أن يحاكم كل شيء طبقاً للأنوار الداخلية بدون الانصياع إلى الشهادة الخاطئة والمختلطة لأحاسيسه وخيالاته». ثم يقول ايضا: «نحن ندعو الروح عقلاً عندما تفعل بذاتها، أو بالأحرى عندما يفعل الله فيها عن طريق النور الذي يضيئها»، ثم يقول عن الله: «ان نوره مشع وساطع بقدر ما هو صافٍ ونقي، ولكن أهواءنا تبقينا دائماً عمياناً.. وعن طريق ظلماتها فإنها تمنعنا أن نكون مستنيرين بنوره.. الخ».. الأمثلة عديدة جداً، ولكن هنا نلاحظ أن النور الطبيعي للعقل البشري يظل معتمداً على النور الإلهي أو مرتبطاً به بشكل لا ينفصم. والسبب واضح فمالبرانش يجمع في شخصه بين العقلانية الديكارتية الصارمة، والإيمان الديني الذي لا يتزعزع. ينتج عن ذلك بالطبع، أنه يخفض من قيمة الحدس أو الخيال، أو العواطف، لكي يركّز فقط على أهمية العقل. ولذلك تُدْعَى عقلانيته بالجافة أو الناشفة على الرغم من أهمية الرجل، وكل الديكارتيين، في تاريخ الفكر، ثم يجيء المفكر البروتستانتي بيير بايل (1647 ـ 1706)، لكي يغلّب، ولأول مرة في تاريخ الفكر، النور الطبيعي على النور فوق الطبيعي، دون أن ينكر الثاني. وهذا العمل يعتبر خطوة جديدة في اتجاه التحرر من اللاهوت الديني والتوصل إلى العَقْلَنة الكاملة لاحقاً.

وملخص كلام «بايل»، هو أن الله نفسه لا يمكن أن نتوصل إلى فهمه أو الإيمان به، إلا إذا كنا نمتلك مسبقاً النور الطبيعي للعقل. وبالتالي فالعقل هو الأول، ولكن بايل لم يتجرأ على الذهاب إلى أبعد من ذلك لكي يفصل كلياً بين النور الفوقي/ ونور العقل، لأن ذلك كان يشكل ما ندعوه بالمستحيل التفكير فيه بالنسبة لزمنه. ولكنه سيصبح ممكناً التفكير فيه في زمن فولتير وديدرو: أي بعد أقل من مائة سنة. هكذا نجد أن العقل يتقدم بشكل بطيء، ولكنه يتقدم. فالعقل البشري لم يتحرر من اللاهوت الديني المسيحي دفعة واحدة، وإنما على دفعات، وتشهد على ذلك بشكل ساطع، تجربة الفكر الأوروبي التي نستعرضها هنا. والواقع أن كلمة «الأنوار» (بالجمع)، راحت تزاحم كلمة النور (بالمفرد)، بل وتحل محلها في أحيان كثيرة. وهكذا أصبحوا يتحدثون عن عصر الأنوار، أو فلسفة الأنوار، أو الأنوار الطبيعية للعقل.. إلخ.

مهما يكن من أمر، فإن مصطلح التنوير راح يتخلص تدريجياً من الهالة الدينية المسيحية لكي يدل على عصر بأسره: هو عصر التحرر العقلي والفكري في القرن الثامن عشر. وعندئذ راح يتخذ شكل المشروع الفكري والنضالي الذي يريد تخليص البشرية الأوروبية وغير الأوروبية من ظلمات العصور الوسطى وهيمنة رجال الكنيسة. بالطبع فإن المشروع كان ضمنياً لا علنياً، بسبب خوف الفلاسفة من السلطة والكنيسة المرتبطة بها عضوياً، ولم يتبلور المشروع بوضوح إلا على يد كوندورسيه في كتابه الشهير: «مخطط البيان التاريخي لتقدم الروح البشرية» (أو الفكر البشري) (1794). لكي نوضح المسافة المقطوعة بين مفكري التنوير الأوائل أو الذين مهّدوا للتنوير، وبين المفكرين التنويريين الحقيقيين، يكفي أن نقارن بين بيير بايل/ وبين فولتير أو ديدرو أو روسو، الذين جاءوا بعده وأكملوا عمله. صحيح ان «بايل» في قاموسه التاريخي والنقدي، تبنّى التصور العقلاني للدين وانتقد هيبة رجال الكنيسة وتسلّطهم على العقول، صحيح انه دعا إلى التفحص الحر للكتابات المقدسة وطالب بالحرية الفكرية والعقائدية في وقت كانت فيه فرنسا تعيش أبشع لحظات التعصب الديني وتضطهد المفكرين بطريقة مرعبة بمن فيهم «بايل» نفسه. ولكنه لم يتجرأ على تلك القفزة التي تحرر العقل كلياً من هيمنة اللاهوت الكنسي. وقد ظل أسير النظرة التشاؤمية والمسيحية للتاريخ والإنسان، وكان يشتبه في العقل البشري ويخشى ان يتجاوز الحدود التي وضعها الله له. فالعقل البشري بدون مساعدة العقل الإلهي يضلّ ويضيع ويذهب في متاهات لا نهاية لها.

ولكن يبقى السؤال مطروحاً: ألم يتطرف التنوير الأوروبي في الاتجاه المعاكس كرد فعل على العقلية الظلامية ومحاكم التفتيش؟ ثم: ألا ينبغي أن نعود إلى تنوير أكثر توازناً: اقصد التنوير الذي يجمع في وحدة واحدة بين نور العقل ونور الإيمان؟