وداعا أيها الحاضر!

TT

منذ أول قدم آدمية وطأت الأرض، وأقامت عهد شقاء مع الدنيا، والانسان يعيش القلق تباعا، كأن ريحا ابدية تحته، تعصف به من كل الجهات الممكنة والمستحيلة. ولم يكن بوسع هذا القلق الدائم، أن يلفت انتباها، لولا أن عدد الجرعات تجاوز الحد الطبيعي والمحتمل، إذ انتقل إلى فضاءات أخرى، كانت تندرج ضمن الواقع اليومي.

ففي الأمس، كنا نحترق قلقا وغربة وحيرة، وذلك كلما أرادت النفس أن تحفر في خباياها، وفي أسرارها، وفي مناطق ضعفها الكثير. أما اليوم، فقد قضمت كل هذه الأجنحة المتشرعة والمجنحة، وبات محكوما علينا، أن نعيش المعركة مع الحاضر، وإعلان الخصام على كل ما هو آمن، الشيء الذي جعل من الحاضر، فضاء لما لا نهاية من الأزمات الزئبقية والخالية من كل فتيل حقيقي. لا شك أن الحاضر، هو أقرب الأزمنة إلى الإنسان، لأنه فضاء يستوعبه بأنفاسه وبدقات قلبه وبايقاعات جسده العليا والدنيا، وهو الحقيقة الزمنية التي نستطيع أن ندعي تحسسها بعيدا عن علاقاتنا الأخرى بالزمن القائمة على حالتي التذكر والاستشراف.

ولكن لماذا في هذه العقود الأخيرة بالذات اشتدت أزمتنا مع الحاضر، فاحتد التوتر إلى درجة إعلان الطلاق التام وتفضيل الارتماء في أحضان الماضي بورده وشوكه معتبرين الحاضر مزايدة متقدمة على ما شاب القرون الوسطى من غيوم حالكة. ألم تكن حياة الانسان، منذ انطلاقها ومنذ فعل الخطيئة المشهور، قائمة على الكر والفر وكم هائل من الندم، وعاشت الشعوب والقبائل الحروب والغدر والسبي والجوع والترحال، واكتوت بقسوة أقاليمها المجتمعات؟ ما الجديد الذي طرأ على شعوب العالم لتستحيل أشياء تتنفس كل شيء إلا الصعداء؟ إن هذا النفور من الحاضر، والترفع عنه، بدأ يفعل فعله منذ سنوات قليلة، وبالتحديد في مجال الفن، فترى أكثر من فنان يتخلى عن ساعة يده، ويختار عجلة بعيدة من عجلات الزمن، أي حقبة من حقبات الماضي ويستعيد لقطاتها، وآخر ينغمس في الأساطير، ينهل منها أساور لقصائده ولرسوماته فيستيقظ كثير من النائمين الأعزاء. وأتذكر أنه منذ سنتين، اعتبر فيلم باتريس لوممبا حدث أيام قرطاج السينمائية، وفي الدورة التي سبقتها امتلأ إلى حد الاكتظاظ شارع الحبيب بورقيبة بجمهور غفير، قرر أن يقدم مظاهرة حب لجمال عبد الناصر من خلال فيلم أحمد زكي. ولعل الكثير أيضا قد انتبهوا لارتفاع الولع الجماهيري بمسلسل «ليالي الحلمية» ومسلسل «أم كلثوم»، ويشعر الكثيرون برغبة عارمة في متابعة أوبرا «حنبعل» ومسرحية المتنبي، وننتظر بفارغ الصبر، فيلم صلاح الدين الأيوبي الذي أعلن عنه منذ أكثر من ثلاث سنوات مصطفى العقاد الذي اكتفى من جهته بأبطال الماضي، قبلة لأحلامه ورؤيته. وأخيرا، علقت الصحافة الفرنسية الثقافية على ظاهرة سيطرة الأعمال التاريخية على مهرجان كان السينمائي وتركيز أغلب أفلام الدورة على البعد التاريخي، بل ان الممثلين أنفسهم، أصبحوا لا يتباهون إلا بأدوار الرموز التاريخية، فذاك كينغسلي، يعلن أن دور «غاندي» أجمل أدواره وأنه ينتظر أن يلعب دور نابليون بونابرت، وتصرح جوليات بينوشي، بأن فيلمها القادم «بيكاسو» هو حلمها الحقيقي، وتشاجرت إلى حد المهزلة، بعض الممثلات المصريات بسبب دور أم كلثوم قبل أن تقرر إنعام محمد علي اختيار الممثلة صابرين.. وإلى آخره من اللهث وراء رموز الماضي والهروب من قفار الحاضر وأيامه الحافية. هذا الانجراف الحاد إلى حدائق الأمس، يتضمن جملة من الدلالات، أولها رفض الإنسان الحالي لحاضره، وتعبيره عن عدم انتمائه لساعته أي أن الحاضر الذي نعيش هو بمثابة تهمة، الكل يحاول التملص منها، واثبات بياض يديه من إثمها. أما الدلالة الثانية، وهي ذات وقع خطير ومأساوي، فتتمثل في أن حاضرنا، وبالتالي نحن، قد عجزنا عن خلق رموز جديدة، وأن ننجب ابطالا جددا، نلتف حولهم ويلتف حول حقنا وتطلعاتنا.

إن إنسان اليوم، يهرب من نفسه إلى ابيه ومنه إلى جده، وذلك عندما تأكد بأن الحاضر، أي حاضره، يخلو من المرايا، فلا مرآة تعكس وجها حيا يعيش معنا، وكل المرايا التي نستعملها باتت مصنوعة من بلور الذاكرة، وتحمل خيالات أناس أحببناهم سماعا وقراءة ورواية وذكرا، وأثروا فينا رغم البعد، مسافة وزمنا، ومثلوا إلى اليوم نافورة للقيم وللمبادئ وللحلم، بل هم خشبة نجاة لكل الغرقى في هذا الحاضر الهائج. ومثل هذه الدلالة، تعني بأن التملص من الحاضر، هو في نهاية الأمر تملص من قيمه وثقافته، تلك الثقافة المادية، التي حملت للانسانية أسباب موت الإنسان وإبعاده عن مركز الوجود، ليتحول إلى مهمش من طراز رفيع. طبعا هذه الثقافة، راهنت على العلم والتكنولوجيا، وتمكنت من تسهيل حياة الإنسان وجعلها يسيرة في عسرها، ولكن بعد فترة خاطفة من الانبهار والفرح بالراديو والتلفزيون والثلاجة والهاتف والسيارة... والقنبلة النووية، بعد هذا الفاصل المكثف من الصدمات والإنجازات كان لا بد من دفع فاتورة باهظة، إلى الآن نتكبد ثقلها الذي يساوي ثقل الإنسان نفسه، وهو ما جعلنا نشتاق ألف مرة للأمس لما يحتويه من بساطة وتعب وبدائية. إن هذا الموقف من الحاضر، أنتج حالة رفض مغلقة، بمعنى أنها لا تؤدي إلى نقد وإلى اقتراح وإلى بدائل وذلك ربما لأن أصحاب الثقافة السائدة والمنتفعين بقيمها، هم سادة العالم، وهؤلاء السادة يشغلون، وظيفة سجان محترف، يجيد تطويق العقول والألسن.

يبدو أن حاضرنا من السلبية ومن العدمية إلى درجة أنه غير قادر على إنتاج حاضر مناهض له بالاضافة إلى أنه قد تمكن من إجهاض مشروع الحياة برمته، إذ تغير كل شيء، أبواب السعادة الإنسانية، غيرت عناوينها، وطريق الإنسانية صار هو نفس طريق الحشرات.

نعم، إنسان اليوم يتخذ من الحشرات نماذج يقتدي بها ويبذل قصارى جهده ليتمثل صفاتها، وذلك بعد أن كان يسعى لافتكاك من الفرس إخلاصها، ومن الكلب وفاءه، ومن الأسد قوته، ومن الحمام محبته، ومن الغزال جماله، ومن الطاووس كبرياءه، ومن الحمل وداعته، ومن الجمل صبره... ومن أعلى الحيوانات ينتهي الإنسان إلى مصادقة الحشرات بما يدل على أنها الأقرب إليه في هذا الحاضر، ولولا هذا القرب، لما حصلت المؤانسة ولا تحقق التطبع بطبائع الحشرات. أغلب الظن، أننا قد وصلنا إلى حالة من فساد النوع التي أشار إليها ابن خلدون في مقدمته.

وأعتقد أنه في هذا السياق نستطيع أن نتحدث عن نهاية التاريخ بطريقتنا الخاصة، إذ أن رفض الحاضر وفراغ هذا الأخير، من أي حجر كريم، يعني أننا لن نتفاعل معه ولن نكتبه ولن ندونه، فلا شيء فيه يغري ولا شيء يثير شهوة الكتابة، لذلك فقد تكفل الإعلام بكتابة الحاضر على مقاس بهائمية أسياد العالم الجديد وعبيده الأسياد. والاستسلام للعبة المقاس والطول والعرض، تدل على أن الحبر المستعمل قد تم تقطيره من نبتة الزيف الأولى، والزيف لا يدوم طويلا وإن طال لذلك فإن التاريخ توقف عند حد الرموز التي ما زالت ذاكرتنا الإنسانية تلهج بوجوههم وأفعالهم، بينما الإعلام الذي أصبح المؤرخ الجديد لحياتنا ومؤامراتنا، لن يقبل به التاريخ مؤرخا لأقل أحداثه حقيقة وحماسة وحرارة، لذا وداعا أيها الحاضر ووداعا إلى الإنسان المحسوب على هذا الحاضر.

* كاتبة وشاعرة تونسية [email protected].