الميمان: ميم.. محكمة

TT

من الطبيعي ان يكون للميم الأولى أهميتها عند أمة «اقرأ» وقد اوشكت تلك الأمة ان تجعل للمحكمة ذات الأهمية الممنوحة للمدرسة لكن عدم وجود فصل واضح بين السلطات وتحول القضاء الى اداة من أدوات الحكم، والى ملحق ديكوري للسلطة التنفيذية في مرحلة من المراحل جعل الثقافة القانونية في المجتمعات الشرقية تتراجع نسبيا ثم تختفي كلياً في عصور الانحطاط لنصحو في عصر النهضة على محاكم تتعامل بالطلاق والزواج والمواريث تاركة كل ما عدا ذلك لحصافة الوالي وعدله ودائما لا حظ كبيراً لهؤلاء الولاة من العدل والحصافة.

وقد لا يكون لهذه الحجة قيمة عند من يرفع عقيرته بالاحتجاج ليسأل: ماذا تغير في الأمر ما دام ولاة الأمور يعينون القضاة، ويفصلونهم في الاسلام منذ عصر الخليفة الراشدي الثاني..؟

وهكذا احتجاج له قيمته الكبرى عند ثقافات نجحت في فصل السلطات التنفيذية عن التشريعية، وله قيمته ايضا عند من يعرفون الفروق الفردية، والزمنية بين عصر، وعصر، وبين شخص وشخص، فعمر بن الخطاب أول من اتخذ القضاء للفصل في نزاعات الناس كان ككل الرواد في كل مجال صاحب رؤية في طبيعة تلك المهنة واخلاقياتها وطريقة ممارستها، ورسائله الى قضاته وحسابه الصارم للمنحرفين منهم مدرسة حقيقية في الثقافة القانونية فهو الذي كتب الى ابي موسى الاشعري قاضيه على الكوفة موصيا: «القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة، فافهم اذا ادلي اليك، وانفذ اذا تبين لك، فانه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، وآس في مجلسك وفي وجهك وقضائك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك».

والرسالة طويلة ولها مثائل مفصلة ارسلت الى شريح في البصرة، والى ابي الدرداء قاضي المدينة، ولاحقا سوف يكتمل عقد هذه الثقافة القانونية بالخليفة الراشدي الرابع الذي قرظ الخليفة الثاني تعمقه في فقه التقاضي بقوله «لولا علي لهلك عمر».

ومن رسائل الامام علي بن ابي طالب الى ولاته في مسائل القضاء وصيته لأحد عماله: «ثم اختر للحكم بين الناس افضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الامور، ولا تمحكه الخصومة، ولا يتمادى في الزلة، ولا يحصر من الفيء الى الحق اذا عرفه، ولا يشرف نفسه على طمع».

ومن خلال هذه الامثلة تبرز الفروق الفردية التي زادتها الفروق الزمنية سوءاً، فبعد ان كان الحكام، والولاة يختارون للقضاء أفضل الرعية، وكان العلماء والفقهاء يتحاشونها خوفاً من عدم القدرة على العدل صار ذلك المنصب في بعض العصور يشترى بالرشاوى، ويورث للاولاد والاحفاد حتى وان لم يكن لهم ادنى معرفة بالشرائع والقوانين.

وفي عصرنا صار تسييس القضاء هو الطامة الكبرى، فلم تعد المحكمة ملجأ المظلوم بل احدى ادوات الظالم في ممارسة حكمه، والامثلة عن مذبحة القضاء في العهد الناصري، وتحزيبه ـ من حزب ـ في العراق، ومناطق أخرى اشهر من ان يشار اليها لانها دخلت في خانة البديهيات من سوئها وشهرتها ومصائبها.

ان الحديث في العالم العربي لا ينقطع هذه الايام عن المجتمع المدني وحقوق الانسان وغالبا يغيب عن أذهان المناقشين ان ذلك المجتمع لا يمكن ان يوجد دون استقلالية كاملة للقضاء ورواتب محترمة لممارسيه تضمن نزاهتهم ومصداقية أحكامهم، وقدرتهم على ان يضعوا الامير مع الفقير على حصير واحد في قاعات المحاكم كما فعل ذات يوم القاضي يحيى بن أكثم بالمأمون مع رجل من الرعية اشتكاه.

والمشتكى لله، فتلك الايام ذهبت الى غير رجعة لكن المراهنة على أيام خضر مثلها وأحسن منها ستظل تراود البشر في احلام يقظتهم ومنامهم وتحقيقها ليس صعبا فقد فعلتها شعوب كثيرة قبلنا وصلت الى ما وصلت اليه لانها اعطت الاولوية للميمين (المدرسة والمحكمة).

ان أي بيت في العالم لا يمكن ان ينهض دون اساس (الميم الأولى) ولا يصلح للعيش الآدمي دون نوافذ (الميم الثانية) وان كان هناك من يبحث عن حياة حرة كريمة فلن يجدها الا في دولة تبني المدارس والجامعات قبل السجون والاصلاحيات وتحرص على تخريج دفعات مؤهلة من المحامين والقضاة بذات الحرص الذي توليه لدفعات الامن المركزي.

ان التقدم معرفة ومحكمة ومعهما ارادة حقيقية وصلبة للتغيير نحو الأفضل، ودون ذلك ستظل جميع الجهود هباء فلا معنى لأي معرفة أو قانون في ظل صناع قرار سياسي يقاتلون بشراسة للابقاء على قوانين الغاب وأساليب العصر الحجري.