التوعية كخطوة لبلوغ أسوار مدينة المعرفة

TT

تعاني المكتبة العربية من نقص فاضح في الكتب والدراسات، لمواضيع المعلومات والمعرفة والاتصالات. ولا توجد سوى بحوث عربية قليلة لمناقشة الطبيعة التقنية، وتحليل انعكاساتها على المجتمع والاقتصاد والسياسة من جانب، وعولمة الافكار والثقافات من جانب آخر. وربما الاهم مناقشة سلبيات وايجابيات هذه الحقبة الهامة لأجل استيعاب حركة التغيرات وموقعنا من هذه التطورات الهائلة.

احدثت تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، حالة من التغيرات السريعة التي يعجز المرء عن متابعتها، فضلا عن استيعابها وادراكها بسبب سرعة تطورها. وهذا ما يجعل طبيعة الاشياء متشابكة ومتصلة على كافة المستويات وليست منفصلة او متناثرة.

اصبح العالم وكأنه جهاز عصبي، حيث تمثل المعلومات الدم منه، والاتصالات بمثابة الاوعية الدموية فيه. هذه الاوعية المتمثلة بالشبكات الموصلة للهواتف والكومبيوترات والانترنت المتكونة من الكابلات والفايبرات الضوئية وغير ذلك.

هذه المعلومات ليس لها صلة بالعرق او التراث، كما انها لا تتأثر بالقيم الاخلاقية سلبا او ايجابا، انها فقط تواقة للانطلاق والحركة في الطرقات الالكترونية العملاقة للنظام العصبي المتشابك، جاعلة من المعرفة سلطانا جبارا بيد من يملك زمامها وسرها، ومولدة امكانات محتملة للتحولات والتغيرات الاجتماعية التي تدخل في النهاية ضمن الممكنات الاقتصادية موفرة لنا، في نهاية المطاف، الاتصال الآني والحركة السريعة، والأهم من ذلك التزاوج بين انظمة الكومبيوتر واجهزة الاتصالات الامر الذي اطلق العنان لهذه التكنولوجيا في الحركة والتغير.

واثرت هذه التغيرات على حركة الاقتصاد وسرعة تأثيره، وجعلت اقتصاد اليوم يختلف بطبيعته عن اقتصاد الامس، حيث تستمر دورات الانتاج بالانكماش بشكل دراماتيكي بسبب تعقيد الالكترونية في سرعة انتاج وتطوير الرقائق الى تعقيد البرمجة وغيرها. وكل هذه التطورات ذات انعكاسات اساسية على ما بدأت تسميته بـ«الاقتصاد الالكتروني». واذا كان رأس المال رمز العصر الصناعي، فإن المعلومات رمز عهد المعلومات، والمعرفة رمز قرن المعرفة المكثفة، القرن الواحد والعشرين. وهذا يعني ان الذهنية هي الاساس في هذا البركان، والافكار اصبحت اساس الحركة الاقتصادية بعد ان كانت واحدة من البنى التحتية في الاقتصاد القديم كما تصورها كارل ماركس. والسبب ان الانسان اصبح هو المركز والاشياء ثانوية في التقنية العالية. وستدخل تكنولوجيا المعلومات والمعرفة اكثر مع علوم البيولوجيا والجينات لبلورة ونضج اقتصاد الغد ـ اقتصاد البيو Bio-Economy.

ان الصراع من اجل الحياة يعتمد اليوم على التفكير، والبقاء من نصيب الذي يفكر بوتيرة اسرع وفاعلية اكفأ مما زاد في اختراعات وابداعات وصناعات المجتمعات المتقدمة في هذا الميدان وتفاعلها مع فلسفة العصر الجديد، العلم، وثقافتها ومراحل تطورها. بينما اكثرية المجتمعات (بلدان العالم الفقير وبضمنها الاقطار العربية) على الطرف الآخر من هذا الشق العلمي المدمنة على الاستهلاك البحت وتسلم انتاجات التقنية الحديثة والتبعية العلمية، منبثقة عنها بالضرورة التبعية الاقتصادية والاجتماعية، ناهيك عن السياسية.

ويعتقد غالبية الخبراء ان قوى العالم في القرن الحادي والعشرين هي الاقتصاد وتكنولوجيا المعلومات والمعرفة، والتصادم لن يكون عسكريا، بل اقتصاديا ومعلوماتيا. والتغيرات هذه ارخص بكثير من استخدام القوة العسكرية لتغير الاجندة السياسية نتيجة المبالغ الباهظة التي تصرف في تكنولوجيا اليوم على المعدات العسكرية. واللاعبون الحقيقيون في الاسواق العالمية الكبيرة يعيدون النظر في استراتيجيتهم الادارية. في عصر المعرفة المكثفة والوسائل الرقمية، فبدلا من التركيز على اجراءات تخفيض الاسعار وتحسين النوعية، كما كان يحدث في الطرق التقليدية، فانهم اليوم يعطون اهمية كبرى لخدمة الزبون. ويعتبر الزبون مفتاح المستقبل لنمو الادارة الحديثة والتي اخذت اسما جديدا وهي ادارة علاقات الزبائن Customers Relationship Mangement.

بدأ السوق العالمي الواحد، مع قصر دورات الانتاج وتوظيف السرعة كعامل استراتيجي للمنافسة، تشخيص حقيقة تجارية مهمة: ان المجازفة والربح يقعان مع الزبون وليس الانتاج. ويركز تعقيد التكنولوجيا وعصر المعرفة المكثفة في السوق العالمي الواحد على الزبونية الشاملة Mass Customisation بدل الانتاجات الشاملة والعديدة. واصبح ترتيب اولوية العلاقة في عالم الادارة العصري يتدرج من الانتاج الشامل الى السوق الشامل الى الزبونية الشاملة. وغيرت المنافسة العالمية الشديدة في السوق الواحدة توازن القوة بين المصنعين (والمجهزين) من جهة والزبائن والمستهلكين من جهة اخرى حيث يوجد تحول حقيقي للقوة من المصنعين الى الزبائن، او كما عبر عنها واحد من اللاعبين الكبار في هذا الميدان ان الزبون هو ملك السوق الرقمي.

ان عصر المعلومات قاد الى بروز الاقتصاد القائم على المعرفة والاتصال والذي تفوق اهميته المصادر الطبيعية او العمالة البشرية، اقتصاد يوظف الخدمات، كالبرمجة والابداع والابتكار، ويحاول تشخيص الاعتماد المتبادل والتغيرات الآنية بشكل افقي وليس بعمودي.

عصر جديد، بل انقلابي يكون الصراع فيه ليس على المصادر الاولية او طرق التجارة، بل حقوق الطبع والافكار وبراءات الاختراع، فضلا عن حقوق السوق وتسويق الانتاجات الفريدة. وربما الاهم بنى تحتية حاوية مساحات المنافسة لفضاءات الحقائق الافتراضية. وتستثمر التكنولوجيا الجديدة المتطورة مواقع البلد على الشبكات الاستراتيجية والقدرة على سبر الغور لتفهم النماذج المعقدة للغاية للتجديد والنمو. وهذا ما دعا الى القول باستبدال دبلوماسية الشبكات بدبلوماسية المدافع.

المفاتيح الرئيسية للقرن الحادي والعشرين ثلاثة، التكنولوجيا والاتصالات الالكترونية اللذان يشكلان قاعدة المثلث ورأسه المتمثل بالمفتاح الاساسي (الثالث)، الميديا. من يمتلك كل هذه المفاتيح سيتولى القيادة ويتمكن من السيطرة على مفاتيح القوة في العالم، ومن يمتلك بعضها سيواكب مسيرة التطور ويكون له دور محدود على مسرح الاحداث، اما من افتقد لهذه المفاتيح فسيكون وجوده على الهامش في احسن الحالات، ان لم يكن الانعزال ثم الموت الحضاري والفناء الجسدي.

وفي فجر القرن الواحد والعشرين امام العرب جملة من التحديات والصعوبات، وكل موازين القوى التكنولوجية والاقتصادية والعسكرية في المنطقة تميل لغيرهم. كما تلوح امام العرب الفرص التي يتوجب استثمار طاقاتها وتوجيهها بالشكل الجديد عبر القنوات العصرية.

ولذا يتوجب البحث والكتابة في هذه المواضيع بشكل اكبر في الصحافة والكتب وقنوات التلفزيون الكثيرة لمواجهة النقص الذي نعانيه من تكنولوجيات المعلومات والمعرفة والجينات وهذا يساهم في خلق حالة ثقافية للعلم والتكنولوجيا في هذا المضمار خصوصا كخطوة اولى للتوعية مما يجب علينا القيام به ثم الحركة والوصول الى اسوار مدينة العلم والمعرفة اللامتناهية.

* كاتب عراقي