رغم أحاديث الإصلاح.. الفلسطينيون في حاجة لخطة سلام

TT

هل لاحظتم شيئا؟

عبارة «عملية السلام»، التي كانت رائجة على مدى عقد تقريبا استبدلت بها عبارة «عملية الاصلاح»! فالنزاع الفلسطيني ـ الاسرائيلي بكامله اختزل على نحو مفاجئ في قضية إجراء اصلاحات في السلطة الفلسطينية. مهما يكن من أمر، فإن الحقيقة هي ان اولئك الذين يرددون الآن نغمة الاصلاحات في الاراضي المحتلة لهم منطلقات مختلفة. فرئيس الوزراء الاسرائيلي آرييل شارون يتحدث وكأنما مهمته الرئيسية في الحياة هي التأكيد على وجود «حكم جيد» للفلسطينيين. ويليام سافاير، الكاتب الصحافي في «نيويورك تايمز»، من اشد المعجبين بشارون الى درجة انه كتب ان شارون هو الشخص الوحيد الذي يمكن ان يمنح الفلسطينيين نظاما ديمقراطيا قائما على أساس حكم القانون. وفي واقع الامر، فإن حكومة شارون هي التي في حاجة ماسة الى اصلاح بعزل الوزراء الذين لا عمل لهم سوى ابتزاز الحكومة الاسرائيلية بغرض الحصول على اموال لناخبيهم. وبصرف النظر عن رغبة شارون الحقيقية في جلب النظام الديمقراطي للفلسطينيين، فإن الحقيقة هي ان الغرض من الترويج والحديث المستمر عن اجراء اصلاحات على السلطة الفلسطينية هو صرف انظار العالم وإلهاؤه عن الحديث عن الدولة الفلسطينية والمواضيع الاخرى التي تثير عدم ارتياح الحكومة الاسرائيلية. الاتحاد الاوروبي، على سبيل المثال، يبدو راغبا في الحديث عن الاصلاحات الفلسطينية لاسباب تخصه. فهناك مبلغ يقدر بحوالي 3 مليارات دولار من اموال الاتحاد الاوروبي اختفت خلال السنوات القليلة السابقة، اذ يبدو ان الاتحاد الاوروبي فاق من سباته على نحو مفاجئ وحاول ان يغلق باب الاصطبل بعد ان فر الحصان. القليل من الاصلاح، حتى وان كان على نحو تجميلي، ربما يوفر لبيروقراطيي اوروبا ورقة توت لتغطية فشلهم المخزي في المشروع الفلسطيني. أما اهتمام واشنطن بالحديث عن الاصلاحات الفلسطينية، فيعود الى مجموعة اسباب. فمدير «وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية»، جورج تينيت، عاد الى المنطقة مجددا يحمل خططا لنظام امني جديد. بيد ان هذه المحاولة تهدف، فيما يبدو، الى التغطية على فشل وكالة الاستخبارات السابق وسط الفلسطينيين، اذ رغم الاموال الضخمة التي ضختها الوكالة والعمل المضني لتجنيد عملاء و«أصدقاء»، فإنها فشلت في تحقيق النفوذ والتأثير الذي كانت تأمل فيه. لذا، فإن وكالة الاستخبارات تأمل من خلال الحديث عن الاصلاح في الوقت الراهن في تأمين قبضة مباشرة اكثر على الوضع. وزارة الخارجية الاميركية من جانبها لها اسباب خاصة بها من وراء الحديث حول الاصلاحات الفلسطينية. فمثل هذا الحديث سيمكن وزير الخارجية الاميركي، كولن باول، من اخفاء حقيقة ان ادارة الرئيس بوش ليس في جعبتها أي سياسة ازاء النزاع الفلسطيني ـ الاسرائيلي بخلاف الايماءات التي تصدر عنها من وقت لآخر. لذا فإن الحديث عن الاصلاح يمكن يخفي هذه الثغرة في الوقت الراهن على الاقل. الفلسطينيون ايضا لهم اسباب مختلفة وراء الحديث عن الاصلاحات. فالزعيم الفلسطيني ياسر عرفات ليس له، كالعادة، سياسة او مشروع بخلاف التأكيد على بقائه السياسي. كما انه، كالعادة ايضا، يسبح او ينجرف مع التيار، إذ ان اهتمامه على مدى ما يزيد على عقد من الزمن ظل واحدا ومحددا وهو المحافظة والحرص على إرضاء واشنطن دون اتخاذ عمل محدد وواضح. يحب عرفات المشي على البساط الاحمر في البيت الابيض واظهار صورته كزعيم دولي. كما انه لا يزال يحلم بالظهور في صورة مع جورج بوش مثلما حدث مع الرئيس الاسبق بيل كلينتون الذي وفر له هذه الفرصة في عدة مناسبات.

وفي سبيل تحقيق ذلك، فان عرفات على استعداد لتقديم أية وعود والتوقيع على أي شيء بما في ذلك «القانون الاساسي» الذي رفضه على مدى خمس سنوات ووصفه بأنه «غير عملي». اعضاء المجموعة المقربة من عرفات، او من يطلق عليهم مجموعة تونس، يتحدثون عن الاصلاح بدافع املهم في ان يؤدي ذلك الى ارضاء الاميركيين والاسرائيليين وبالتالي جعلهم متمسكين بمواقفهم لبعض الوقت. اما القيادات الفلسطينية التي مارست تجربتها السياسية بكاملها داخل الاراضي المحتلة، فتتحدث عن الاصلاحات لاسباب مختلفة. يأمل هؤلاء في ان تؤدي الاصلاحات الى الزوال التدريجي لعرفات والمجموعة المحيطة به وافساح الطريق امام ظهور قيادة جديدة لها جذور محلية عميقة.

اما اهتمام الجماعات الاسلامية المتشددة بالحديث حول الاصلاح، فنابع في الاساس من رغبتهم في ان يؤدي ذلك في نهاية الامر الى اجراء انتخابات جديدة تمكنهم من كسب قاعدة تسمح بتحقيق مطالبهم بحكم مطلق. آخر استطلاعات الرأي اشار الى ان اقل من ثلث الناخبين الفلسطينيين في الاراضي المحتلة يؤيد بقاء عرفات في رئاسة السلطة الفلسطينية، مما يفتح المجال امام الاسلاميين والقوميين لطرح برامجهما دون ان يكون عرفات قادرا على التأثير على ناخبي الوسط. نجح عرفات في البقاء بفضل تأليب القوميين والاسلاميين على بعضهم بعضا فيما عمد هو الى اظهار نفسه كرمز ابوي وزعيم اجماع. هذه اللعبة باتت اكثر صعوبة الآن لأن الفلسطينيين ادركوا تماما ان عرفات لا يملك أي سياسة حول أي شيء باستثناء المحافظة على نفسه. الانتفاضة الثانية انتهت الآن كعملية سياسية ذات معنى، فقادتها فشلوا في تحويلها الى نضال كامل للتحرر يشارك فيه كل الفلسطينيين. وعلى العكس من ذلك، فإن الترويج للهجمات الانتحارية أدى الى تقليص عدد القادرين على لعب دور في الانتفاضة، كما انهم فشلوا كذلك في تحديد واعلان مطالب واضحة ومحددة للانتفاضة، اذ انها تعد اول تمرد شعبي في التاريخ لا يسفر عن مجموعة مطالب محددة. اما السبب الاساسي في هذا الغموض، فيعود الى فهم عرفات الخاطئ للسياسة. فالسياسة بالنسبة لعرفات هي فن رفض الممكن والحلم بالمستحيل والوعد بتحقيق ما هو بعيد الاحتمال وغير مرجح الحدوث أملا في ان يؤدي كل ذلك في نهاية الامر الى قضائه يوما اضافيا في دائرة الضوء. لن يقول عرفات أي شيء واضح حول أي موضوع، فهو وقع على «القانون الاساسي»، لكنه لن يسمح مطلقا بتطبيقه. كما انه وعد بإجراء انتخابات، لكنه لن يسمح باجراء أي انتخابات الا عند تأكده من الفوز بها. وعندما يحاصر في زاوية ضيقة حول أي من القضايا يأتي بعبارات مثل «سيتحقق المراد اذا توفرت الارادة» و«سنعبر ذلك الجسر عندما نصل اليه». هذه العبارات لا تعدو ان تكون وسيلة للتشويش وكسب الوقت من جانب عرفات.

القاء المسؤولية بكاملها على عرفات، كما يفعل شارون، ليس من الانصاف في شيء. فالحقيقة هي ان الفلسطينيين فشلوا حتى الآن في التوصل الى قيادة بديلة (كان امام الفلسطينيين قيادة بديلة عام 1991، لكنهم أجبروا من جانب اسرائيل على التخلي عنها لمصلحة عرفات). الحديث عن الاصلاح في فلسطين لن يقود الى اي نتيجة اذا لم يرتبط بقضية اساسية وهي اقامة دولة فلسطينية. الفلسطينيون في حاجة الى تطوير خطة سلام خاصة بهم يعالج جزء منها البنى السياسية التي يعتزمون انشاءها في دولة المستقبل، اذ بدون هذه الخطة سيكون كل الحديث عن الاصلاح مضيعة للوقت واضاعة للارواح.