«عَ هدير» بوسطة الانتخابات المتنيّة!

TT

ظُهر يوم الثلثاء الماضي خرج الرئيس رفيق الحريري من مكتب رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري الذي رافقه الى الخارج وكانا بصحبة النائبين ايلي الفرزلي وجان عبيد. لكن الابتسامات العريضة التي عَلت وجوه الاربعة فاجأت الصحافيين الغارقين اصلا في جو من التجهم والقلق رافق التأزم الشديد الذي رافق تأخير اعلان نتائج الانتخابات الفرعية في منطقة المتن للمقعد الاورثذكسي الذي شغر بوفاة الدكتور البير مخيبر.

وعندما سأل الصحافيون رئيس الحكومة عن التطورات المتعلقة بموضوع اعلان نتيجة الانتخابات الذي كان قد تأخر من مساء الاحد الى ظهر الثلثاء وسّع من مساحة ضحكته وقال: «سماؤهم في وجوههم»!.

كانت هذه الاشارة الرسمية الاولى الى تجاوز قطوع الانتخابات التي كانت قد وضعت لبنان امام ازمة كبيرة لو ان وزير الداخلية لم يقم بإعلان النتيجة التي أسفرت كما كان واضحا ومعلوما تقريبا في اوساط المعارضة انها لصالح مرشحها غبريال المر الذي نافس ميرنا المر ابنة شقيقه ميشال وشقيقة وزير الداخلية الياس المر، في معركة كسر عظم بكل معنى الكلمة، حيث كان ميشال المر قد اعلن من باب التحدي انها ليست معركة مقعد نيابي، بل معركة اصوات، وان شعبيته في المنطقة ستجعل الفرق في الاصوات لمصلحة كريمته 10 آلاف صوت على الاقل!.

وفي الواقع لم تكن قصة «سماؤهم في وجوههم» الموقف الرمزي الوحيد في الانتخابات التي شغلت اللبنانيين على امتداد الاسبوعين الماضيين. ذلك ان كثيرا من الرموز ذات المغزى العميق رافق عملية فرز الاصوات التي بدأت قبل العاشرة من مساء الاحد انها ادت الى فوز غبريال المر بفارق ثلاثة اصوات فقط بعد خلاف على القلم رقم 303 في حي القديسة رفقة في بلدة حملايا المجاورة لبكفيا.

ولأنه سبق لميشال المر ان شبّه معركة المعارضة ضد ابنته، بأنها معركة إلغاء له وضد الرئيس اميل لحود. فقد اشتعلت الرمزية في مخيلات اللبنانيين الذين قالوا يبدو ان القديسين يتدخلون تكرارا في الانتخابات!. فإذا كانت المزاعم قد وصلت عام 1968 الى القول إن «العذراء قد دارت» للايحاء بدعمها لمعركة «الحلف الثلاثي» (كميل شمعون، بيار الجميل وريمون اده) ضد نهج الرئيس فؤاد شهاب، فلا بد من ان رفقة قد تدخلت في حملايا رفقا بغبريال المر وتحالف المعارضة الواسع من حوله.

لكن الرمزية لم تتوقف عند حدود القلم 303، ففي ظل تصريحات المعارضين الذين كانوا متصارعين في الخنادق ثم توحدوا في المعركة ضد السلطة ممثلة بأحد ابرز رموزها اي ميشال المر، وهي التصريحات التي تعمدت تصوير التحالف في المتن بداية تحالف اوسع واعمق في كل المناطق اللبنانية لاستكمال «معركة التغيير» بدا واضحا ان هذه الرمزية استحضرت اغنية فيروز المعروفة «عهدير البوسطة» ما دامت الامور قد ابرزت دور حملايا التي تكتسب موقعا ظريفا في الاغنية، وما دامت حملة المعارضة للتغيير ستنتقل من منطقة الى منطقة.

إذاً: «عهدير البوسطة» ستكون نقلة المعارضة من ضيعة حملايا لضيعة «تنورين» وسيتذكر اللبنانيون عيون «عليا الحلوين».

وهكذا على هدير البوسطات والماكينات الانتخابية نهار الاحد الماضي في المتن، ثم على هدير التظاهرات والتحشدات الطلابية التي قابلها هدير مجنزرات القوى الامنية ليلا امام سرايا الجديدة شرق بيروت، تذكر الكثيرون في اطار الرمزية كلمات الاغنية، التي تتحدث عن «واحد عمياكل خس وواحد عمياكل تين» في تلك البوسطة الذاهبة الى تنورين، ربما لأن غبريال المر كان مهددا بأن لا يأكل لا خسا ولا تينا.

فجر يوم الاثنين الماضي صدرت جريدة «النهار» وفي احد اسطر المانشيت، ما يمثل رمزية أخرى، حيث تم تشبيه دور حملايا في الانتخابات بدور ولاية فلوريدا الاميركية التي استأخرت اعلان نتائج الانتخابات الرئاسية الاميركية على النحو المعروف.

قمة الرمزية جاءت بعد ظهر الثلثاء عندما عقد وزير الداخلية الياس المر مؤتمرا صحافيا، اعلن فيه فوز عمه غبريال المر بأكثرية 17 صوتا، من دون احتساب قلم حملايا الذي دار الخلاف عليه ولم يحتسب، لأن احد المقترعين لم يوقع الى جانب اسمه، وتبين ان قلم ضيعة القعقور قد احتسب مرتين وعند التصحيح جاءت النتيجة لمصلحة مرشح المعارضة.

وهكذا اضافة الى «هدير البوسطة» و«فلوريدا المتن» تذكر اللبنانيون ان القعقور هو الاسم الذي يطلقه الفلاحون في الارياف على مجموعة من الحجارة الصغيرة توضع فوق بعضها البعض من دون طين او اسمنت. وهو أي القعقور لا يرتفع كثيرا ويستعمل للدلالة على الحدود بين المشاعات او للتذكير بنقطة معينة في البرية، لكنه عموما لا يصمد امام عوامل الطبيعة فيسقط بعد حين.

لماذا تذكروا القعقور؟

ربما لانهم تذكروا ان قعقور او تحالف المعارضة التي جمعت خصوم الأمس يحتاج الى «طين أو اسمنت» لكي يصمد ويبقى وكذلك ان قعقور السلطة يحتاج بدوره الى «طين أو اسمنت» لكي يصمد ويبقى.

طبعا ان التوليفة السياسية المعارضة التي امكن جمعها اليوم حول معركة المقعد الاورثذكسي وغبريال المر، هي في ظل اخطاء السلطة المتراكمة والمتمادية، أيسر بكثير من توليفة معارضة مماثلة بعد ثلاث سنوات اي في انتخابات سنة 2005، يفترض ان تتم على مدى اوسع واشمل، بمعنى تشكيل لوائح انتخابية لكثير من المقاعد في المتن وغيره من المناطق اللبنانية، حيث يمكن ان نرى بالعين المجردة منذ الآن الصعوبات الكثيرة التي قد تواجه الذين هان عليهم التحالف في مواجهة ميشال المر ومن ورائه السلطة، وتاريخ غير قليل من نظام خدمات لم يخل من ملامح استئثارية، كان آخرها خوضه معركة المقعد الثاني في البيت الواحد وضد اخيه وقد اشتبكا في قتال كلامي مرير.

وفي الواقع ان التأمل في النسيج او الروابط التي يقوم عليها كل من تيار المر السلطوي وتيار المر المعارض، يفترض ان يقودهما الآن الى استخلاص دروس عميقة ومفيدة. ايضا من نتائج المعركة، التي اثبتت وجود نوع من توازن القوى بينهما.

ماذا يمكن ان تستخلص السلطة من دروس؟.

يمكن ان تتنبه على الاقل الى انها تبرع في صنع الانتصار لخصومها عبر ادائها الخاطئ قبل الانتخابات وخلالها، فقد نجحت المعارضة بقوة عام 2000 بسبب اخطاء السلطة، ونجحت الآن بقوة اكثر بسبب الاخطاء عينها!.

وماذا يمكن ان تستخلص المعارضة؟.

يمكن ان تستخلص الكثير هي ايضا ولكن الأهم ان تستخلص أمرين:

اولا: ان تعرف مستقبلا كيف تبقي «القواتي» الى جانب «العوني» و«الكتائبي» الى جانب «الاحرار» والثلاثة.. مع الشيوعي كما حصل. وهذا امر يحتاج وعيا وتحضيرا ورسم خط سياسي بياني جامع يشكل ارضية صلبة للانتخابات والعمل الوطني.

ثانيا: ان تعرف كيف تصوغ خطابا يبقي التحالف بين المعارضين ويكون مفهوما ومقبولا على المستوى الوطني، والخطاب الموجّه الى المتنيين في معركة المقعد الواحد غير الخطاب الموجه الى اللبنانيين في معركة حرية لبنان وديمقراطيته.