عجمة اللسان وفصاحة الأقدام

TT

«تحولت لعبة كرة القدم إلى تراجيديا متواصلة، لا بل أصبحت دراما بدل أن تكون فرحة، ان الأمور تتقهقر بسرعة هائلة». هذا الرأي المتجهم، ليس لامرأة ضامرة العضل، تحقد على الرياضة والرجولة الفتية التي تقدم استعراضاتها، هذه الأيام، على عشب الملاعب العالمية، وإنما هو لبطل كرة القدم الشهير ميشيل بلاتيني، الذي صار بحكم السن التقاعدية مراقباً فاعلاً، يعرف خفايا الكواليس وخباياها. وحين يضيف بلاتيني، عشية منحه لقب «لاعب فرنسا للقرن العشرين» أنه ينتمي، لحسن الحظ، إلى جيل تلذذ بالكرة لا إلى جيل «البزنس الكروي»، فإنه يتألم ويوجع معه كل الذين يحلمون بأن يبقى للنقاء بقعة ولو صغيرة، على وجه البسيطة، لا تدنسها مصالح المستثمرين وأطماع السياسيين وسمومهم.

والكرة سواء ركلتها بالقدم أو رميتها في السلة أو ضربتها على الطاولة، ما عادت تشبه في شيء تلك الكرات البريئة التي صنعها البشر، في زمن لم تؤرخ له الكتابة، حيث ترك لكل أمة، في هذا الزمن الانتهازي، أن تنسب لنفسها عبقرية ابتكار الكرات الأولى التي يرجّح أنها كانت من قماش، وتقاذفها الناس مستخدمين أرجلهم وأيديهم دون تمييز أو تخصيص.

أما التقسيمات المستجدة فهي بنت الحضارة الحديثة، حيث صار لليد كرات، وخصّت القدم بواحدة، وضِعت لها مقاسات وشروط، ونظمت لها طقوس وأعياد، وشكّلت من أجلها الفرق والأندية والاتحادات وتحركت النعرات والحساسيات، وألفت لها الأناشيد وعزفت على شرفها الموسيقى، ونودي بالناس للاجتماع حولها والتصفيق والتهليل كلما تدحرجت على عشب شغلت المختبرات بدراسته وتنقية شوائبه والسعي لتليين ملمسه. ولا تتحرك الكرة/النجمة من دون مخرجين يضبطون إيقاع التعامل معها، ومنتجين يغدقون عليها من عطاياهم، هذا إضافة إلى المعلنين والصحافيين والمعلقين وكاميرات التلفزة التي ترصد حركتها الرشيقة وتنقلها إلى أصقاع الدنيا، حتى بات كل منا يحلم، في ليله البائس، أن يستفيق وقد استحال كرة لينال هذا الشرف العظيم أو هذا الاستغلال التفنني البديع.

وصلتنا كرة القدم منذ كانت منتوجاً غربياً لم تنضج معالمه بعد، وبقدرة التسويق والتشويق أضحت تسلية عالمثالثية بامتياز، وخصصنا لها ملاعب في كل حارة. فالكرة تمضية وقت، وهي تجمع ولا تفرق، وتفتح الحدود بين الأمم وتسقط عجمة الألسن بفضل وحدة أبجدية الأرجل. لكن كرة القدم على الجهة المقابلة من المتوسط، كانت تصنع لنفسها مساراً آخر يتعدى اللعبة نفسها إلى اللعب بواسطتها على حبال كثيرة، نرى بعضها اليوم ونجهل البعض الآخر. فحين نتحدث عن الـ«فيفا» أو الاتحاد الدولي لكرة القدم الذي ولد هزيلاً منذ ما يقارب مئة سنة، فإنما نتكلم عن الدماغ الأوروبي المركزي الذي صنع أسطورة شعبية على مدى الأرض اسمها «كرة القدم». والإنجاز المدهش الذي حققه الاتحاد لا ينحصر في إخراجه اللعبة من حيزها الضيق إلى مستوى الغزو السلمي الذي تشرع أمامه الأبواب، وإنما في جعله المؤسسة الكروية، التي هو مركزها، شبكة أخطبوطية، بسبب ارتباطه العضوي باتحادات الكرة حول الأرض، وانضواء 200 مليون لاعب فاعل، من مختلف الجنسيات، تحت لوائه، والأدهى من ذلك هو الجماهير التي تعد بالمليارات التي يستطيع أن يحركها ويجيش مشاعرها. وقد لا يكون مبالغة القول ان الاتحاد هو امبراطورية عابرة للقارات، وأحد أهم رموز العولمة على الإطلاق، والتي لا يجرؤ متظاهر واحد ـ يهاجم طوال العام منظمة التجارة العالمية ـ على رشقها بالبيض أو البطاطا. أما اذا استمر حال الأمم المتحدة في التقهقر فقد تصبح سلطة الفيفا على الأرض أقوى من قرارات مجلس الأمن التي لا تطبق إلا على العرب.

والسؤال البسيط والمعقد الذي لم يجب عليه البحاثة في بلادنا هو مفعول مشاهدة مباريات كرة القدم على مدار شهر ـ كما هو الحال خلال كأس العالم ـ على المفاهيم القيمية عند الناس، رغم ان الاختصاصيين الغربيين قاموا بواجبهم في هذا الميدان، ووجدوا أن الطقوس الكروية هي انعكاس صادق للمفاهيم الاجتماعية السائدة بينهم، وليس من مفكر واحد يستطيع ان يتخيل كرة القدم مجرد لعبة تسلوية ينتهي مفعولها بانقضاء المباراة. والمؤكد أيضاً أن هذه اللعبة ما كانت لتحرز شعبيتها المنقطعة النظير في تاريخ الرياضة الحديث، لو لم تتميز عن منافساتها، برموز ومعان تجعل جماهيرها يتماهون معها ومع أبطالها وسلوكياتهم وأهدافهم النهائية بأشد مما يحدث لهم مع غيرها.

ألا ترى ان العرض الكروي هو أشبه بعرض مسرحي، وضعت خطوطه العريضة ثم ترك مصير الممثلين يصوغونه وفق استراتيجياتهم وخططهم، وقدرتهم على التركيز والتسلل واختراق نقاط ضعف الخصم وتسجيل الأهداف في مرماه. كل ذلك يتم ضمن رؤيا تعتمد على تمجيد القوة والحنكة لمسخ الطرف المقابل (من دون عنف). انها لعبة انتصار النجومية الفردية بقدر ما تستطيع ان تتناغم وتتعاضد لمؤازرة الجماعة. واذا كانت القيم التي تنتصر لها كرة القدم بنسختها العصرية هي القوة وحيازة التقنية والديناميكية، فإن الشباب احدى أبرز هذه القيم وكذلك نموذج الجسد الفحولي المنحوت عضلياً (والذي يستعرضه اللاعب بتعرية جذعه للتعبير عن النصر) في مقابل نموذج العقل المصقول معرفياً.

وبحسب الفيفا فإن السنوات الخمس والعشرين الأخيرة اتاحت مساحات نفسية وجغرافية لكرة القدم ما يزال الاتحاد عاجزاً عن استغلالها بالكامل. وليس صدفة ان يتزامن هذا التاريخ الذي يعود بنا إلى منتصف السبعينات مع ذبول التيارات الثقافية الفكرية التي كانت تحرك البشر قبل أن ترثها كرة القدم.

اللهو ميل فطري إنساني، لكن الاعتراض هو على استغلال هذا الميل وإيصاله حد الجنوح والجنون، ومن ثم توظيفه واستثماره كسلعة تجارية مشروعة، وهو في حقيقة الأمر كذلك، وفق الأنظمة الحديثة.

أحد مشاريع الفيفا التي ستؤمن لها فتوحات مستقبلية اسمه «غول» أو «هدف»، وستطلق خلاله 100 ألف كرة باتجاه العالم النامي، ومعها خبراء ومستشارون لإخراج الخليقة من ديجور الجهل إلى نور المعرفة الكروية. فأي ورطة مستحيلة هي أن تتجاهل كرة القدم، وأي ورطة تكمن في قبول البشرية بغالبيتها، وباسم الروح الرياضية، تحويلها إلى أغنام تسمّن وتدلل كي يتلذذ جزارو السوق الاقتصادية بلحمها وشحمها وحليبها كامل الدسم.

[email protected]